أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - مثالب الولادة: صرخة سيوران في وجه العبث














المزيد.....

مثالب الولادة: صرخة سيوران في وجه العبث


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 18:14
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في الصباح، حين تستيقظ على صوت منبّه لا يُوقظك من نومٍ عميق بقدر ما يُجبرك على الانخراط من جديد في مشهد عبثي لا دور لك فيه، وأنت تحاول أن تُقنع نفسك بأن شرب القهوة سيُعيد ترتيب الفوضى في داخلك، رغم أنك تعلم أن كل يوم يشبه الآخر، وكل حركة تُعيد نفسها بملل آلي... هناك، في تلك اللحظة التي تتثاءب فيها الحياة، وتُطلّ من نافذتك على شوارع تمضغ الناس وتلفظهم في الحافلات، في الإدارات، في طوابير الانتظار الطويلة، تشعر بأنك لست حيًا فعلاً، بل مجرّد كائن سُحِب من رحم الراحة العدمية ليؤدّي دورًا غامضًا في عرضٍ لم يُستشر في كتابته.

تسير بين الناس، ووراء كل وجهٍ ترى تعبًا مستترًا، وجوهًا لم تعد تُبدي دهشة من شيء، كأنها استسلمت منذ زمن لفكرة أن لا شيء سيتغيّر. طفل يبكي أمام دكان، عامل نظافة يرفع كيس قمامة وكأنّه يرفع خيبته، امرأة تساوم على ثمن البصل كأنها تفاوض الحياة نفسها... هنا، وسط هذا المشهد المغربي اليومي، حيث الرتابة تأكل الإنسان من الداخل، تُصبح كلمات سيوران عن لعنة الوجود ليست فقط فلسفة، بل تفسيرًا موجعًا لما نعيشه دون أن نسأل: هل كان علينا أن نولد أصلًا؟

في عالمه الموحش والمُدهش، حيث الكلمات ليست مجرد حبر على ورق بل جروح تنزف بلا توقف، يأخذ إميل سيوران في كتابه "مثالب الولادة" القارئ في رحلة ليست إلى أعماق الفكر، بل إلى حافة الهاوية التي يسميها الوجود. هنا، لا مكان للأحلام المُزيّنة بالأمل، ولا للروايات الوردية التي نُخدع بها منذ المهد. سيوران لا يكتب ليُسلّي، ولا ليُعزّي، بل ليُجبرك على مواجهة الحقيقة العارية، تلك التي تُفلت منها العيون عادة، لأنها أقسى من أن تُحتمل. الولادة، في عينيه، ليست احتفالًا بالحياة، بل لعنة أولية، لحظة طردٍ عنيف من رحم العدم الهادئ إلى صخب الواقع المُزعج، حيث كل خطوة تُقربك من خيبة جديدة، وكل نفسٍ تُذكّرك بثقل الوجود.

تخيّل نفسك واقفًا أمام مرآة مهشمة، كل قطعة منها تعكس جزءًا من ألمك، من ارتباكك، من ذلك السؤال الذي لا يجرؤ أحد على طرحه بصوتٍ عالٍ: لماذا وُلدت؟ سيوران لا يقدم إجابة، لأنه لا يؤمن بوجودها. بدلاً من ذلك، يُلقي بك في متاهة من الأفكار، حيث الوعي ليس نعمة، بل عقوبة، وحيث الحياة ليست هبة، بل عبءٌ ثقيل لا يُطاق. كلماته ليست مجرد جمل، بل سهامٌ تُصيب القلب مباشرة، تُمزّق أوهامك، تُعرّي أحلامك، وتتركك عاريًا أمام حقيقة واحدة: أن تكون موجودًا هو أن تكون مُدانًا بحكمٍ لم تُشارك في كتابته.

في هذا العمل، لا يُقدّم سيوران فلسفةً تقليدية، ولا يُحاكي المنطق المنظم الذي اعتدنا عليه في كتب الفكر. إنه يُحطّم كل الأطر، يُفكك الأساطير التي بُنيت حول معنى الحياة، ويُسخر من كل محاولة لإضفاء جدوى على هذا الوجود. التقدم البشري؟ مجرد وهمٍ مُتقن الصنع. البطولة؟ مسرحية هزلية يلعبها أولئك الذين خدعهم وعيهم. والوعي نفسه؟ سجنٌ لا مفتاح له، يُجبرك على رؤية الحقيقة دون أن يمنحك القوة لتحملها. كل صفحة في "مثالب الولادة" هي صرخة، ليست ضد الحياة فحسب، بل ضد فكرة أن الحياة يمكن أن تكون شيئًا يستحق العناء.

ما يجعل هذا الكتاب استثنائيًا هو قدرته على أن يكون مرآة لروح القارئ. إنه لا يكتفي بالحديث عن العبث، بل يجعلك تشعر به، يُغرقك فيه، يُجبرك على الإحساس بثقله. كأن سيوران يهمس في أذنك: "أنت لست وحدك في هذا الشعور، لكنك وحدك في مواجهته". هنا تكمن قوته، في هذا التواطؤ الحميم مع هشاشتك، مع ذلك الجزء منك الذي يعرف أن الحياة قد تكون خدعة كبرى، لكنه لا يملك الجرأة للاعتراف بذلك. سيوران يُعطيك هذه الجرأة، لكنه لا يُعطيك الراحة. لا يُقدّم مواساة، ولا يُشجع على الأمل، بل يدعوك للوقوف في وسط العاصفة، عاريًا، دون مظلة، لتنظر إلى السماء وتُدرك أنها فارغة.

هذا الكتاب ليس دعوة للموت، بل هو تحدٍ للحياة. إنه لا يطالبك بالاستسلام، لكنه يُجبرك على التخلي عن الأوهام التي تجعل الحياة تبدو محتملة. يُعرّي الغد من وعوده الزائفة، يُظهر لك أن الأمل ليس سوى قناع يرتديه اليأس ليبدو أجمل. كل جملة فيه هي زفرة، كل فكرة هي طعنة، لكنها طعنة لا تُدميك، بل تُوقظك. إنها الصحوة الأكثر إيلامًا، لأنها تُجبرك على رؤية الحياة كما هي: مسرحية بلا جمهور، قصة بلا نهاية سعيدة، رحلة بلا وجهة.

ومع ذلك، هناك شيء غريب ومُدهش في هذا النص. رغم قتامته، رغم حدته، هناك جمالٌ ما في صدقه. سيوران لا يكذب، لا يُجمّل، لا يُحاول أن يكون بطلًا أو فيلسوفًا يُقدّم إجابات. إنه إنسانٌ يُصارع الوجود، يُصارع فكرة أنه هنا، وأن هذا "الهنا" ليس له معنى. هذا الصدق يجعل الكتاب ليس مجرد نص، بل تجربة. إنه كالوقوف على شاطئ بحرٍ هائج، تشعر برذاذ الأمواج يضرب وجهك، وتسمع هدير الموج وهو يُخبرك أنك صغير، تافه، لكنك موجود، وهذا وحده هو مأساتك.

عندما تُغلق هذا الكتاب، لا تخرج منه كما دخلت. شيءٌ ما في داخلك يتغير، ربما لا تُدركه في الحال، لكنه هناك. ربما هي تلك الابتسامة المُرّة التي تُشبه الاعتراف، أو تلك اللحظة التي تُدرك فيها أنك لست وحدك في شعورك بالضياع. سيوران لا يُعطيك حلولًا، لكنه يُعطيك شيئًا أكثر ندرة: الشجاعة لتُواجه العبث دون أن تدّعي أنك تفهمه. وفي هذا، ربما، يكمن انتصاره الوحيد: أن يجعلك ترى الحياة كما هي، ثم يتركك لتُقرر ماذا تفعل بهذا الرؤية. لكن احذر، فبعد هذا الكتاب، لن تعود قادرًا على خداع نفسك بسهولة. الحياة، كما يراها سيوران، ليست سوى لحظة طويلة من الندم على لحظة الولادة، ومع ذلك، هناك شيءٌ مُبهر في هذا الندم، شيءٌ يجعلك تُواصل القراءة، تُواصل الحياة، ربما فقط لتُثبت أنك قادر على تحدي العبث، حتى لو كنت تعرف أنك لن تُفلح.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصمةُ عارٍ لا تُمحى: فلسطين بين الجوع والخذلان
- حين رفعت المرأة سيفها على الرجل… فمزّقت قلبها
- اذا أردنا إصلاح المجتمع ...من أين سنبدأ؟
- محمد عبد السميع نوح في رواية حركة تنقلات: هجاء السلطة وفضح ا ...
- بوحمارة... حين امتطى المغربَ رجلٌ فوق حمارة
- ثورة الكوميرة: حين صرخ الفقراء فدوّى الرصاص
- إيران بين الضربة والصفقة: من يرسم حدود الشرق القادم؟
- بوجلود بين الذاكرة والتشويه
- مديونية المغرب: حين يتحوّل الدين إلى أسلوب حياة
- بين رصاص الحدود وظلال الوطن: مأساة العودة في قلب التوتر المغ ...
- مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟
- من سيقود المغرب؟ سباق الأحزاب نحو حكومة ما بعد الإحباط
- ابن كيران: سياسة -الزواق- بخطاب -بلا نفاق-
- سبعة دراهم لفنجان قهوة... والقدرة الشرائية في غرفة الإنعاش
- الضباع تلتهم قيمنا
- سردٌ يُنصت لصوت الإنسان العربي بين جذور الماضي وتقلبات الحاض ...
- -شيء من بعيد نادني-: بين الهويّة المتجددة والاغتراب الوجودي
- -متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة
- حكايات الهدوء النبيل في زمن الاضطراب: تأملات الناصر التومي ف ...
- -الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة


المزيد.....




- إسرائيل تعلن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن ودوي صفارات الإنذار ...
- علماء يكتشفون أكبر اندماج على الإطلاق بين ثقبين أسودين هائلي ...
- طواف فرنسا: الهولندي آرينسمان يحقق انتصارا بطوليا وبوغاتشار ...
- مظاهر تصاعد وتيرة التحريض العنصري والسياسي على فلسطينيي 48
- خامنئي: تطوير القدرات العسكرية والعلمية سيشهد تسارعا
- فرنسا تدعو لتوحيد سوريا عبر حلول سلمية وضمان حقوق الأكراد
- وسط مواقف متباينة.. فرنسا تدافع عن قرارها الاعتراف بدولة فلس ...
- حرائق جديدة تلتهم غابات تركيا والحكومة تعلن منطقتي كوارث
- مراقبون: مقتل العشرات بهجمات للدعم السريع في قرية بغرب السود ...
- بسبب الحرب في غزة.. هل ستنهج ألمانيا موقفا أكثر صرامة إزاء إ ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ... / رياض الشرايطي
- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - مثالب الولادة: صرخة سيوران في وجه العبث