ميشيل الرائي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 06:48
المحور:
قضايا ثقافية
في البنية الثقافية التقليدية، تتجسد علاقة الفرد بالجماعة في صورتين متوازيتين، لا تشتغلان في تناقض بل في توافق خفي: الأولى تُقنّع الذات بضمير "نحن"، كأن النطق الفردي لا يُؤمَن به إلا إذا تدثّر بجماعية مُفترضة؛ والثانية تفرغ التجربة الشخصية من مشروعها الداخلي، لتعيد توجيهها نحو سوق أخلاقي تُقدَّر فيه الأفعال بمدى تطابقها مع خطاب المعاناة العام.
في الحالة الأولى، يصبح التلفظ بـ"نحن" آلية لإعادة إنتاج السلطة داخل الخطاب، لا بوصفها قمعًا مباشرًا، بل كنوع من التوزيع الرمزي لامتياز النطق. حين تقول امرأة "نحن النساء..." فإنها لا تطالب بحق بقدر ما تعيد صياغة خضوعها ضمن جماعة تتكلم نيابة عنها، أي أن "النسوية الجماعية" هنا لا تُحرّر، بل تُثبّت نظامًا تكراريًا من التمثيل القسري. التعميم الجماعي لا يفتح احتمالات المعنى بل يُغلقها باسم "تجربة نسوية موحّدة"، وهو ما يجعل الآخر ـ الرجل مثلاً ـ يقرأ المرأة من خلال صور نمطية جاهزة لا تحتمل التباين أو الانشقاق.
أما الصورة الثانية، فتكمن في ما يمكن تسميته اقتصاد الذنب العام: حيث تُصبح لحظة الفرح الفردي محلّ شك، وتُقابل بعبارات مثل "أطفال غزة يموتون وأنت تحتفل؟"، وكأن السعادة فعل عدواني في وجه المأساة. بهذا، يُستعمل الألم المشترك لا كمجال للتعاطف، بل كأداة لمراقبة الذات وتقييدها، ويُستثمر أخلاقيًا لقمع الفعل المختلف، فيصبح الصمت هو الشكل الوحيد المسموح به للتضامن.
هاتان الظاهرتان لا تعملان على فصل الذات عن الجماعة، بل على محو الحدود بينهما في اتجاه واحد: الجماعة تُفرِغ الذات من استقلالها، وتحوّلها إلى مرآة لخطاب عام لا يحتمل الشك ولا يقبل الانقطاع. وهنا، لا تعود المسألة مسألة "من يتكلم؟" بل "ما اللغة التي يُسمَح بالتكلم بها؟"، ومن يملك الحق في رسم خرائط النطق والتأويل.
"نحن" التي تُقال ببراءة هي شبكة تُحبَس فيها الفرد، إذ كل كلمة شاملة هي فخ محتمل يُؤجّل.
"نحن" لا تعني الوحدة، بل تعني استبعادًا مقنعًا؛ التعميمات مَحاكم صامتة تُطرد المختلف بلا حكم معلن.
"أنا" التي تتكلم عبر "نحن" مثل مرآة لا تعكس إلا وجوها جماعية لا وجوهًا حقيقية.
الألم حين يُسجّل كعملة أخلاقية يفقد قوته الثورية، يتحول إلى سلعة تُشترى وتُباع ويُطلب إثبات نقائه.
في المجتمعات التي تُراقب فيها الضحكات أكثر من الصرخات، يصبح الفرح هو فعل المقاومة الحقيقي.
السلطة لا تمنع الكلام فقط، بل تمنح اللغة بأشكال تجعل الكلام محكومًا منذ ولادته.
حين تطالب المرأة بحقها في الكلام، تُسلّم لها أوراقًا مكتوبة مسبقًا تُحدد ما يمكن قوله.
المتاهة ليست محاطة بجدران، بل تُحيط بنفسك حين تصدق أن الخروج هو مجرد العودة إلى البداية.
المقاومة المصنوعة من مواد السجن نفسها ليست إلا طبقة جديدة من القيد بألوان مختلفة.
الضحية حين تصبح رمزًا مطلقًا، تتحول إلى سلطة جديدة تراقب الآخرين من فوق.
ليس المهم من يتحدث، بل من صاغ إمكانية الكلام، من رسم خرائط اللغة وأذون الصوت.
اللغة لا تتحرر بالصراخ، بل بالخطأ، فالخطأ هو الهروب الوحيد من بنية المعنى المغلقة.
الجماعة التي تراقب الفرح هي كاهن يطلب البكاء لنيل الغفران.
الخطاب الأخلاقي الذي لا يعرف إلا الحداد يفقد قدرة الإصغاء إلى الحياة.
السؤال الحقيقي ليس "هل تتكلم؟"، بل "هل كان صوتك مسموحًا له بالوجود قبل أن تنطق؟".
المتاهة الحقيقية هي أن تُخدع وتصدق أن الخروج ممكن عبر كلمات وُلدت داخل المتاهة.
الخلاص ليس في تبديل البيادق، بل في إدراك أن الرقعة ليست أرضًا، والبيادق ليست أنفسنا.
قول "أنا" في مواجهة "نحن" ليس نرجسية، بل تمرين أول على النفس.
أكثر الخطابات راديكالية هي الهمس في أذن اللغة: "أنتِ لا تُقنعينني".
في هذا السياق، يبدو أن بعض التيارات النسوية المعاصرة تسقط في نفس فخ السلطة الذكورية، لا عن غفلة بل لأن اللعبة نفسها لم تتغير: البيادق اختلفت، لكن رقعة الشطرنج بقيت كما هي. الصراع لا يتبدّد بتبديل المواقع، بل حين يُعاد مساءلة البنية: من وضع قوانين الخطاب؟ من احتكر تعريف الظلم؟ من منح الصوت شرعية النطق وأسكت الآخر؟
القوة الحقيقية للخطاب، أيًّا كان نوعه، لا تكمن في ارتفاع نبرته بل في شكّه في أدواته: حين يسأل "ما هو الصوت؟ من يحق له أن يُسمِع؟ من صاغ المعنى الأولي ومن استُبعِد من التمثيل منذ البداية؟" حينها فقط يتحول من ردّ فعل إلى تفكيك فعلي، لا يكرر الأشكال القديمة بوجوه جديدة، بل يكشف أن ما نسميه المتاهة لم يكن إلا مسرحًا كُتب من ورق.
وهكذا، لا يعود السؤال هو: كيف نُعيد توزيع الأدوار داخل النظام؟ بل: هل يمكننا الانسحاب من النظام ذاته دون أن نقع في الصمت؟ هل يمكن ابتكار خطاب لا يطمح إلى امتلاك المعنى، بل يكشف عن طبيعته الاصطلاحية والمؤقتة؟ خطاب لا يسعى إلى التمثيل بل إلى تعرية شروط التمثيل. هذا لا يعني نفي الحاجة إلى التعبير، بل مساءلة بنيته: من منح المعنى استقراره؟ من جعل "نحن" مبدأ أخلاقيًا، و"أنا" فعلًا أنانيًا؟ من قرر أن الجماعة تحمي، والفرد يخون؟
السلطة ـ في كلا الحالتين ـ لا تظهر في القمع المباشر، بل في الإغواء: إغواء التحدث باسم "الجميع"، إغواء التضامن المُفترض، إغواء النُبل الأخلاقي الذي يجعل الفرد يعاقب نفسه لأنه لم يكن ضحية بما يكفي، أو لأنه تجرأ على الفرح في زمن الحزن الجماعي. هذا التضامن المُقنّع لا يُنتج جماعة بل ينتج مسرحًا تُراقَب فيه التصرفات وفق شعائر الألم الجمعي.
ولذلك، فالوعي النقدي لا يبدأ بالتمرد بل بالإنصات: إنصات دقيق للاختلالات في اللغة، للشقوق بين "أنا" و"نحن"، للثقل الأخلاقي الذي تُمارسه الجماعة دون مساءلة. ليس الهدف أن نكسر النظام، بل أن نُظهر هشاشته، أن نُعيد الكلام إلى مكانه الأصلي: مكان الاحتمال، لا اليقين.
ما يُخيف في هذه البنى هو قدرتها على العمل دون مركز، على أن تُعيد إنتاج ذاتها من خلال الأفراد الذين تظاهَروا بالخروج عنها. فحين تتكلم المرأة بلسان "نحن"، لا تهرب من الذكورة بل تُعيد تشكيلها في قالب آخر. وحين يُقمع الفرد باسم "الألم العام"، لا نُحرر المعاناة بل نحولها إلى معيار للقياس الأخلاقي الزائف.
الفعل المقاوم لا يُقاس بشدّة الصوت ولا بعَدالة المطالب، بل بقدرته على زعزعة البديهي، على فتح فجوة صغيرة في جدار المعنى، على اختراع لغة تظلّل دون أن تحتكر، تُشير دون أن تُغلق. عندها فقط، لا يعود التحرر رد فعل على الهيمنة، بل فعل اختراع لمساحات لم تكن مرئية، لصوت لم يُسمَع بعد، لخطاب لا يعيد رسم الخارطة بل يُعلّقها رأسًا على عقب.
هناك فقط، في هذه الارتجافة بين الصوت وظلّه، بين الاسم ومن لا يُسمّى، يولد ما يُشبه الحرية.
ملاحظة: كانت هذه الحوارات بيني وبين زوجتي باللغة الفرنسية. تعلمت من خلالها أن اللغة ليست مجرد كلمات تُنقل، بل هي فضاء تتغير فيه الأفكار وتولد من جديد. والحوارات الحقيقية هي تلك التي تبقى مفتوحة، حيث ما زال هناك الكثير مما لم يُقال.
#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟