أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد















المزيد.....

السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 19:41
المحور: السياحة والرحلات
    


لم تكن رحلتي إلى استكشاف العقيدة السيخية نزهة فكرية، ولا سعيًا استشراقيًا خلف غرائب العقائد. كانت امتدادًا لمسارٍ بدأ بخطى حافية على أرض المعبد الجيني في بومباي، حيث خفّة الزهد وبياض الصمت يحيطان بك كما يحيط الضوء بقطرة ندى. هناك، في عوالم اللاملكية والتجرد من التعلقات، شعرت للمرة الأولى أن الإنسان يستطيع أن يقترب من جوهره عندما ينسحب عن صراخ الامتلاك والاسم والانتماء.

لكن الرحلة لم تتوقف. إذ أن الانسحاب وحده لا يكفي إن لم يتبعه انخراطٌ في خدمة الحياة. ومن هنا كانت خطوتي التالية نحو السيخية. لم يكن ذلك اختيارًا واعيًا، بل كما لو أن القدر كان يهمس لي: “لقد تأملت في الصمت، والآن تأمل في العمل. لقد اختبرت الانفصال، فاختبر الآن الاندماج.”

هكذا قادتني الأقدار من بومباي إلى بارودا، ثم إلى تشيناي، وأخيرًا إلى أخيرا في البحرين، حيث وقفت أمام أبواب ثلاثة معابد سيخية، تُعرف باسم “جوردوارا”، في أماكن مختلفة من الجغرافيا، لكنها كانت تُفضي كلها إلى معنى واحد: أن تكون في خدمة الله عبر خدمة الإنسان.



اللقاء الأول: بارودا، حين يتنفس الجدار ذاكرة

في بارودا، ولاية غوجارات، كان الهواء ثقيلًا برائحة التاريخ. أمام جوردوارا “شيتشومبافاد”، وقف رجلٌ مسنٌّ بعمامة بلون الغروب، يحمل بين يديه وثيقة هبة أرض تعود لعام 1895م. رفع الستارة القماشية كمن يرفع ستار المسرح عن فصلٍ منسيٍّ من التاريخ، وقال بصوتٍ راسخ:

“نحن هنا منذ زمن المهراجا سايجي راو الثالث، وهذه الأرض أهداها الجدّ لجدي، لأنه أنقذ حياته في رحلة صيد… هل ترى الصورة هناك؟ ذاك جدي، الحارس السيخي، يحمل سيفه لا ليقتل، بل ليحرس ويمنع موتًا عبثيًا.”

نظرتُ إلى صورة قديمة معلّقة فوق الجدار الحجري لمطبخ اللانغر، فرأيت وجوهًا جامدة زمنياً، لكنّها حية في هذا الامتداد الروحي الذي لا يزال يتغذى من نهرٍ من التواضع والخدمة.



لانغر: مائدة تسقط الطبقات وتُقيم الصلاة

في اللانغر، مطبخ الخدمة المجانية الذي يُعدّ قلب الجوردوارا، كنت أجلس إلى جانب مسنين هندوس، وعمال مسلمين، وسائحين من أوروبا، لا أحد يسأل عن دين الآخر، ولا عن طبقته، بل يُقدم لك الطعام على أوراق الموز، كما في عهد الغورو أرجان، كأنك في مأدبة يباركها الله لا البشر.

في تشيناي، كانت خلطة “سامبر” بالتمر الهندي تُسكب فوق أرز “إيدلي” الجنوبي، وكان المزيج يحمل نكهة الانصهار أكثر من الطعم. سيدة تاميلية شاركتني طبقها وقالت وهي تبتسم:
“هنا لم يسألني أحد عن قصتي، لأول مرة شعرتُ أنني مجرد إنسانة.”

وفي البحرين، على أطراف مدينة البسيتين، وجدت نفسي أمام صفيحتين نحاسيتين على مدخل المعبد، إحداهما مكتوبة بالعربية:
“ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا” ( الإنسان: 8 )
وبجانبها بالبنغالية البنجابية:
“سيفر باتش نيمباك” — أي: خدمة البشر عبادة نقية.

هكذا أدركت أن اللانغر ليس مجرد طقس، بل مدرسة في المساواة. كان الخبز في بارودا، والأرز في تشيناي، و”القبولي” في البحرين، مجرد وسائط لرسالة واحدة: أن الطعام يمكن أن يكون أكثر صراحة من الخطب، وأكثر تقوى من كثير من الصلوات.



الغورو الذي لا يموت: الكتاب بوصفه معلمًا حيًّا

في قلب كل جوردوارا، يرقد “الغورو غرانث صاحب” داخل صندوق خشبي مُغطى بقماشٍ وردي مذهّب، يُعامل كما يُعامل جسد إنسان حيّ. يُروى له الماء، وتُهدهد صفحاته بنسيم المراوح، ويُحمل على الأكتاف كالعريس في ليلة زفافه. أنها الدهشة أن تجد نصًّا يُعامل بهذا القدر من الرفق والحب.

في تشيناي، رأيت امرأة سيخية تقرأ من الغورو غرانث، ودموعها تنزل بلا صوت. جلستُ على الأرض بجانبها، لم أفهم كلمات البنجابية، لكني فهمت الشعور. لاحقًا، قال لي أحد الشباب السيخ:
“الكتاب لا يُقرأ فقط، بل يُسمع… لأن الله أقرب إلى الأذن المنصتة منه إلى العين الناقدة.”

ومن بين آياتهم، تلك التي بقيت تتردد في داخلي:

“حيثما تسكن المغفرة، هناك يسكن الله ذاته.”



رموز الجسد: حين تصبح العقيدة ملموسة

كل سيخي ملتزم يحمل على جسده خمس علامات تُعرف بالـ 5Ks:
• الكيش (شعر غير مقصوص): رمز قبول الجسد كما خُلق.
• الكيرا (سوار فولاذي): دائرة لا بداية لها، رمز وحدة الوجود.
• الكيربان (خنجر): لا للعدوان، بل للحماية.
• الكانغا (مشط): رمز الطهارة والتنظيم.
• الكاتشا (سروال داخلي خاص): دليل الانضباط والعفة.

في بارودا، أشار إليّ شابٌ صغير بخنجره المُعلّق وقال:
“هذا ليس سلاحًا… بل مسؤولية. السيف هنا لا يذبح، بل يذكّر.”
حين سألته عن معنى ذلك، أجاب مبتسمًا:
“عندما نحمل رمزًا على الجسد، لا نستطيع أن نخون الروح.”



تقاطع العقائد: حين تصافح القباب المآذن

في تشيناي، كانت جوردوارا “كاباليشوارار” تقع على مرمى حجر من مسجد قديم يحمل الاسم ذاته. مشهد مئذنة وجانبها قبة ذهبية، كأنما الآذان والتراتيل يتعانقان لا يتنافسان.

هناك التقيت بالبروفيسور محمد قاسم، أستاذ تاريخ الأديان في جامعة مدراس، الذي قال:
“في عام 2008، قدّم السيخ اللانغر خلال مولد النبي في المسجد، وحين خرج الغورو غرانث في موكب، كان شباب الحي المسلم يحرسونه… لو كان ناناك بيننا لابتسم طويلاً.”



خاتمة الرحلة: في البسيتين… حين يصبح الرمل صلاة

حين خرجت من جوردوارا البسيتين في البحرين، التصقت حبات الرمل بقدميّ العاريتين. ناولني خالد سينغ عمامةً بيضاء وقال:
“البياض يعني أن الروح لا تحمل لونًا، والرمل لا يُميز بين الأقدام.”

في تلك اللحظة أدركت أن السيخية ليست دينًا “مركّبًا” من الإسلام والهندوسية كما يقول البعض، بل موقفٌ روحي نشأ من رفض كل تحريف، ومن شوقٍ شديد إلى النقاء والتوحيد والكرامة الإنسانية.

الغورو ناناك لم يُصالح بين الأديان، بل صرخ في وجه تزييفها:
“لا هندوسي ولا مسلم!”
ليس لرفض المقارنات ولا إنكارًا للروح، بل للطبقية والوسائط والخرافات التي شوّهتها.

وفي ضوء هذا كله، فهمت أن السيخية لا تُقدم نفسها كخلاص حصري، بل كدعوة بسيطة:
“ابحث عن الله بلا وسيط، وخدم الإنسان كأنك تخدمه.”



ملاحظة ختامية:
كل ما ورد من مشاهد تم توثيقه خلال رحلتي بين أغسطس2008 ويناير 2025، في معابد السيخ في بارودا وتشيناي والبحرين، عبر مقابلات مباشرة، وملاحظات ميدانية، وصور محفوظة. هي شهادة من الداخل، لا ادعاء فهمٍ شامل، بل محاولة إنسانية لالتقاط جوهر دينٍ يُنشد الله بخفّة العمل لا بثقل الطقوس.
———-

المراجع

مشاهدات شخصية من رحلات: بومباي – بارودا – تشيناي – البحرين (2008-2025).
• مقابلات مع: غوربخشان سينغ (بارودا)، خالد سينغ (البحرين)، د. هاربرين كور (بارودا)، بروفيسور محمد قاسم (تشيناي).
• نصوص مترجمة من الغورو غرانث صاحب – نسخة معبد تشيناي.
• أرشيف ولاية غوجارات – وثيقة هبة أرض جوردوارا بارودا (1895).



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يضيء عقلك عتمة حياتك: أربعون درسًا من قلب الطريق
- الابتسامة التي تُبنى عليها الإمبراطوريات
- ملفات إبستين: التستر الكبير، الانقسام المؤسسي، وامتحان الشفا ...
- لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية
- أسماك القرش: ضحايا وهم التوحش
- صرير العجلات ومعنى أن نُقاد بدل أن نقود
- من نباح الامان الى عواء الحرية
- من فولتير إلى بيل غيتس: رحلةُ الوعي بين التنوير والكلاشينكوف
- المتقاعدون: ثروة وخبرة تُستثمر لا تُهمَّش – نحو سياسات مستني ...
- رؤية خضراء لإحياء الصحراء: مقترح بيئي شامل لإعادة تأهيل الصح ...
- الصهيونية والعقيدة اليهودية: تفكيك خرافة دينية وخيانة أخلاقي ...
- معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة
- فلسفة وابي سابي: حين تصبح الشقوق ذهبًا — دع النور يتسرّب من ...
- العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية
- أحبّهم… لكنهم يُطفئونني: الشخصيات السامّة بعيون الوعي
- الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظا ...
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...
- الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...


المزيد.....




- مفاجأة غير متوقعة.. العثور على ضعف ما أبُلغ عنه من عدد حيوان ...
- جان نويل بارو يزور كييف بعد وابل من القصف الروسي
- سرعتها تفوق 700 كيلومتر في الساعة..كييف تعثر على حُطام المُس ...
- إيران تكشف عن موعد ومكان محادثاتها مع -الترويكا- الأوروبية.. ...
- ترقب بشأن تطور هجوم برشلونة بعد التحاق النجم الانجليزي راشفو ...
- استئناف المحادثات النووية بين إيران والقوى الأوروبية في إسطن ...
- عشائر بدو سوريا.. جذور عميقة في التاريخ وامتداد في الجغرافيا ...
- السجن ثلاث سنوات لطالب في كوت ديفوار بتهمة الإساءة للرئيس
- المحتوى المضلل يجد طريقه إلى -شات جي بي تي- بفضل المحتالين
- ما المواد -المتطرفة- التي أقرت روسيا تغريم الباحثين عنها؟


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد