أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليقين















المزيد.....

أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليقين


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 11:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في لحظات الانعطاف الحاد من التاريخ، حين تتصدع الأبنية الكبرى وتتهاوى اليقينيات التي طالما مثلت ركيزة للهوية والوعي، يجد الفكر الإنساني نفسه أمام هاوية وجودية سحيقة، يضطر معها إلى إعادة النظر في كل ما توارثه، وكل ما بنى عليه تصوراته عن الذات، والعالم، والمعنى. في مثل هذه اللحظات، لا تكتفي الفلسفة بالمراجعة أو التأمل، بل تدخل في صراع عنيف مع أساساتها ذاتها، وتُدفع دفعًا إلى قلب السؤال من جديد: من نحن؟ وما الذي يمكن أن نؤمن به؟ وأين تكمن الحقيقة؟ وكيف نواجه الفراغ؟

هكذا كان حال الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، التي انطلقت في القرن السابع عشر بوعد كبير: أن العقل وحده قادر على تحرير الإنسان من براثن الجهل والتسلط، وأن الذات المفكرة قادرة على تأسيس معرفة يقينية لا تحتاج إلى مرجعية خارجية، وأن العالم قابل للفهم والتمثل من خلال أدوات المنهج والتجريب والنقد. لم يكن ذلك المشروع مجرّد توجه فلسفي، بل كان إيذانًا بميلاد إنسان جديد، ومجتمع جديد، ومعرفة جديدة تتجاوز القرون الوسطى بكل ما حملته من مظاهر الغيب والتسليم والخضوع.

كان الكوجيتو الديكارتي لحظة انفجار رمزي هائل، أعلن بداية مركزية الذات، وانسحاب المرجع الإلهي من ساحة المعنى، وتحول الفلسفة من "اللاهوت الخادم" إلى "العقل السيد". ومن تلك اللحظة، بدأ مسار طويل ومعقد لبناء منظومة عقلية وأخلاقية متماسكة، تشكلت فيها تصورات الحداثة، وتبلورت رؤى التقدم، والحرية، والتاريخ، والمستقبل. غير أن هذا المسار لم يكن خطيًا، ولا مستقيمًا، بل كان محفوفًا بالتوترات والانقطاعات والتمزقات الداخلية.

فقد بدأت الشكوك تتسلل إلى أعماق الذات الحديثة ذاتها، التي كانت تعتبر، حتى وقت قريب، مركز المعنى ومصدر القيمة. وشيئًا فشيئًا، تفككت هذه الذات تحت ضربات النقد النفسي، والاجتماعي، واللغوي، والأنثروبولوجي. لم تعد الذات جوهرًا عقلانيًا مستقلًا، بل صارت موضعًا للتاريخ، والبنية، والسلطة، واللاوعي. نيتشه، فرويد، ماركس، فوكو، لاكان، ديريدا، وآخرون، كشفوا جميعًا أن هذه الذات "الواثقة" لم تكن سوى بناء هش، تشكله الخطابات، وتخترقه الرغبات، وتعيد إنتاجه الأنظمة السياسية والثقافية.

في الوقت نفسه، واجهت الحقيقة مصيرًا مشابهًا. فإذا كانت الحداثة قد وعدت بحقيقة يمكن الوصول إليها بالعقل والتجربة، فإن الفكر المعاصر سرعان ما أدرك أن الحقيقة ليست سوى تمثيل مشروط، أو سردية متحيزة، أو نَصّ مفتوح قابل للتأويل إلى ما لا نهاية. لم تعد الحقيقة شيئًا يُكتشف، بل بنية تُصاغ. ولم تعد المعرفة حيادية أو موضوعية، بل خاضعة للموقع، والمصلحة، والسياق. هكذا تحول العقل من منقذ إلى متهم، ومن أداة للحرية إلى أداة للهيمنة، وصارت الفلسفة نفسها مطالبة بتفكيك الأسس التي قامت عليها.

أما الإله، الذي كان قد انسحب بهدوء في لحظة التأسيس الحداثي، فقد تم الإعلان عن موته صراحة في لحظة ما بعد الحداثة. ولم يكن "موت الإله" إعلانًا إلحاديًا بقدر ما كان تعبيرًا عن فراغ رهيب في الوجود، وعن انهيار المرجعية النهائية التي كانت تضمن النظام، والأخلاق، والغاية. لقد مثّل هذا الموت لحظة انكشاف للعدم، وعُري للإنسان في مواجهة كونه، حيث لم يعد هناك ضامن مطلق لأي شيء. ومن هنا بدأت أزمة القيم التي لم تكن سطحية، بل وجودية. فبغياب الإله، تهاوت شرعية الأخلاق، وتفتت معايير الخير والشر، وتحولت الحرية من مشروع مسؤول إلى عبء لا يُحتمل.

وما زاد الطين بلة أن مسيرة التقدم العلمي والتقني لم تساهم في التخفيف من هذه الأزمة، بل عمّقتها. فبينما كان يُظن أن التقنية هي امتداد لعقل الإنسان، برهنت الوقائع المعاصرة أن التقنية تسير في مسار موازٍ، غير إنساني في جوهره، وغير معني بالمعنى من أصله. إن الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، يقدّم قدرات فائقة في الحساب والمعالجة، لكنه يفتقر إلى الحس، والتأمل، والإرادة الحرة. ولعل المعضلة الأخطر اليوم ليست في ما تستطيع التقنية فعله، بل في ما تفعله بنا من دون وعي منا: إذ تُعيد تشكيل وعينا، وتحدد اختياراتنا، وتضعنا ضمن أنساق من الكفاءة والسيطرة، دون أن تسأل عن الغاية أو القيمة.

وهكذا، وجد الإنسان الأوروبي – في قمة ما يظنه إنجازه – نفسه في حالة من الفراغ الأنطولوجي. لا إله يسنده، ولا ذات متماسكة تحتضنه، ولا حقيقة مطلقة ترشده، ولا قيمة ثابتة تهديه. يعيش في كون صامت، مجرّد من المعنى، مفتوح على العدم، ويغرق في الحيرة وسط بحر من الخيارات المتشابكة. لم تعد الحرية باب الخلاص، بل صارت عبئًا وجوديًا. ولم تعد المعرفة مطمئنة، بل محفوفة بالشبهة. ولم تعد الفلسفة مرشدة، بل تائهة مع الإنسان في دهاليز العبث واللاجدوى.

لكن، رغم هذا المشهد الكئيب، ثمة ما يدعو إلى التوقف لا عند حدود الأزمة، بل عند أفق الإمكان. فالتفكيك الذي مارسته الفلسفة الحديثة والمعاصرة، رغم قسوته، كان ضروريًا لكشف أوهام اليقين، ولإزالة الطبقات الزائفة التي كانت تحجب عنا الوجه الحقيقي للأسئلة الكبرى. ما بعد اليقين لا يعني نهاية التفكير، بل انفتاحه على احتمالات جديدة. فحين تسقط السرديات الكبرى، تبرز الحاجة إلى حوار جديد مع الوجود، أقل صلفًا، وأعمق تواضعًا، وأكثر انفتاحًا على الآخر، والتاريخ، والمستقبل.

في زمن التشظي، يصبح السؤال أكثر أهمية من الإجابة، ويصبح الإنصات أكثر نبلًا من الادّعاء، وتصبح الفلسفة مدعوة لا إلى بناء أنساق مغلقة، بل إلى إنتاج فضاءات تأملية تُعيد الاعتبار للمعنى، لا بوصفه يقينًا ناجزًا، بل أفقًا مفتوحًا يُنقّب فيه الإنسان باستمرار، بين الأطلال، وبين الشكوك، وبين شظايا الذات.

هكذا، لا يُصبح التفلسف تمرينًا نظريًا، بل شرطًا وجوديًا في زمن الفراغ. ليس الهدف أن نُعيد بناء "كاتدرائية العقل" كما حلم التنويريون، بل أن نشعل شمعة صغيرة في أنقاضها. ليس المطلوب أن نعود إلى ما قبل الحداثة، ولا أن نستسلم لما بعدها، بل أن نُعيد التفكير من قلب الأزمة، لا من خارجها، وأن نغامر بطرح أسئلة لا تملك إجابات جاهزة، لكنّها تفتح مسارات ممكنة لفهم الذات، والآخر، والعالم، في زمن ما بعد اليقين.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار
- الفلسفة الأوروبية المعاصرة وتحديات العصر الحديث: بين العلمنة ...
- الأمن القومي في زمن السيادة الرقمية: الذكاء الاصطناعي والخوا ...
- الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأورو ...
- الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة ال ...
- العلمنة النقدية في فكر محمد أركون: بين تحرير المقدّس ونقد ال ...
- هندسة السمعة في عصر الذكاء الاصطناعي : من الإدراك البشري إلى ...
- ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات


المزيد.....




- -اكتفيت إلى هنا-.. دانا مارديني تعلن اعتزالها -كممثلة في مجا ...
- اليابان: رئيس الوزراء ينوي البقاء في منصبه بعد توقعات بهزيمة ...
- إسرائيل تأمر الفلسطينيين في وسط غزة بالتوجه جنوبًا.. ومنتدى ...
- -آليات لأعداء الأمة-.. ضاحي خلفان يحذر من مخاطر الميليشيات و ...
- أزمة السويداء: ما الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه في سوريا؟
- إذا اندلعت حرب جديدة مع إيران.. ما الجديد في حسابات تل أبيب؟ ...
- ألمانيا ودول أوربية أخرى تستعد لبدء محادثات جديدة مع إيران
- طواف فرنسا: البلجيكي تيم ويلينس بطلا للمرحلة الخامسة عشرة
- غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار وتجويع في التاريخ الحديث
- دمشق تعلن تهدئة الأوضاع في السويداء وقلق أميركي من سياسات نت ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليقين