أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة














المزيد.....

الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 10:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
الدوغمائية ليست مجرد موقف فكري متشدد، بل هي نمط وجودي يغلق نوافذ العقل ويحوّل الإنسان من كائن باحث عن الحقيقة إلى مدافع شرس عن أوهام يظنها حقائق مطلقة. إنها سجن ذهني يتقوقع فيه صاحبه، ويجعل من قناعاته أسوارًا تحجب عنه نور العقل وتشلّ قدرته على التأمل والتساؤل والنقد. في الحالة الدوغمائية، لا تُفهم الحقيقة بوصفها أفقًا مفتوحًا على الاحتمالات، بل تُختزل في جملة من الآراء والمعتقدات الجامدة التي يُعاملها الفرد كما لو كانت يقينًا إلهيًّا لا يُمسّ ولا يُناقش. ومتى تعارض الواقع مع هذه القناعات، يُعاد تأويل الواقع أو يُعاد اختراعه؛ فقط لكي يستمر الوهم.

لقد عرف الفكر الإنساني أشكالًا متعددة من الدوغمائية، بدءًا من التعصب الديني، مرورًا بالتحجر الأيديولوجي، وانتهاءً بالانغلاق المعرفي والعلمي. فالمتعصب دينيًّا لا يرى إلا نصوصًا يفسرها على هواه، ويرفض أن ينفتح على تأويلات مغايرة، أما الدوغمائي الأيديولوجي فيرى في أفكاره منظومة خلاص مطلقة، تُغنيه عن التفكير وتُغلق أمامه باب المراجعة. حتى في مجال العلم، قد تظهر الدوغمائية عندما يتم الدفاع عن نظرية علمية بعنف أشبه بالإيمان الديني، رغم ما قد يظهر من أدلة تنقضها. إنها حالة من العمى الفكري التي تُقصي النقد، وتؤسس لثقافة الإقصاء.

تكمن خطورة الدوغمائية في أنها تتغذى على الخوف: الخوف من التغيير، من الشك، من الفراغ المعرفي، من فقدان اليقين، من مواجهة الذات في مرآة الفكر المختلف. ومن هنا، فإن الدوغمائي لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الطمأنينة؛ ولا يسعى إلى اكتشاف العالم، بل إلى تثبيت صورة مسبقة عنه، مهما كانت زائفة. بهذا المعنى، فإن الدوغمائية هي شكل من أشكال الهروب من الحرية، لأن الحرية الفكرية تتطلب مسؤولية الشك، والقدرة على تحمل التوتر الناتج عن تعددية وجهات النظر، وهو ما لا يقوى عليه الدوغمائيون.

على المستوى المجتمعي، تمثل الدوغمائية أحد أخطر معوقات التقدم الحضاري، إذ تعطل الحوار، وتمنع التعايش، وتؤدي إلى إنتاج سرديات مغلقة تُؤسّس للصراع بدل التفاهم. فالمجتمعات التي تهيمن فيها العقلية الدوغمائية تعيش حالة من الاستقطاب الحاد، حيث يُختزل الآخر في مجرد "خصم"، لا يُنظر إليه بوصفه شريكًا في الوجود الإنساني أو مصدرًا محتملاً للحكمة، بل يُعامل بوصفه تهديدًا يجب اجتثاثه. هكذا تتحول الأفكار إلى خنادق، وتتحول الثقافة إلى ساحة حرب، ويتحول العقل إلى آلة للدفاع لا أداة للفهم.

ولعل أحد أخطر ما تنتجه الدوغمائية هو خيانة الحقيقة نفسها. إذ بينما تدّعي أنها في خدمة الحقيقة المطلقة، فإنها في الواقع تقتلها بصمت، لأنها تمنع أي مسار نقدي قد يؤدي إلى كشف الزيف الكامن في بعض "المطلقات". كما أنها تُجرّد الإنسان من أعظم ما يمتلكه: القدرة على المراجعة، والاعتراف بالخطأ، والتطور. في ظل الدوغمائية، يتجمد التاريخ، ويتوقف الإبداع، وتُصبح المجتمعات أسيرة ماضٍ يُقدّس لا يُنتقد، وتُسدل الستائر على المستقبل.

إن مقاومة الدوغمائية ليست مجرد خيار فكري، بل هي مهمة وجودية وأخلاقية، تستدعي منا أن نتحرر من أوهام الكمال، وأن نمتلك شجاعة الشك، وأن نؤمن بأن عظمة العقل لا تكمن في امتلاكه للحقيقة، بل في بحثه الدائم عنها. فالفكر الحر ليس فوضى، بل مسؤولية، وهو يتطلب بناء وعي نقدي قادر على التفكيك وإعادة البناء دون الوقوع في عبودية الأفكار الجاهزة. إن لحظة التحرر من الدوغمائية هي لحظة ميلاد الإنسان الحقيقي: الإنسان الذي يفكر، ويشك، ويتعلم، ويتغير.

ومن هنا، فإن الحاجة إلى "تربية نقدية" باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. تربية لا تزرع في الأذهان أجوبة جاهزة، بل تساؤلات مفتوحة. تربية لا تحشو العقول بالمعتقدات، بل تُنمّي فيها الجرأة على التفكير والبحث والنقاش. فالدوغمائية لا تُهزم بالعنف، بل بالوضوح؛ لا تُقهر بالتهكم، بل بالمعرفة؛ ولا تُكسر بالخطابة، بل بالتعليم العميق والحر والمنفتح. وفي عالم بات فيه الانغلاق الفكري يُغذى عبر وسائل الإعلام والتواصل، فإن مهمة الفلاسفة والمربين والمثقفين الحقيقيين هي أن يفتحوا نوافذ جديدة للضوء، في وجه العقول التي أُغلقت طواعية، في زمن تسيطر فيه الظلال على المشهد.

في النهاية، ليست الدوغمائية مجرد خلل معرفي، بل هي مأزق إنساني شامل. ومواجهتها لا تعني فقط الانفتاح على الأفكار، بل استعادة إنسانيتنا المهددة في زمن تتراكم فيه الأصوات العالية وتندر فيه الأسئلة الصامتة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...


المزيد.....




- أمريكا تلغي إجراء خلع الأحذية في المطارات
- وزير الدفاع الألماني في واشنطن لبحث صفقة صواريخ باتريوت لصال ...
- 43 قتيلا في غارات إسرائيلية على غزة وتفاؤل أمريكي بشأن التوص ...
- عاجل | مصادر في مستشفيات غزة: 12 شهيدا في غارات إسرائيلية عل ...
- -قاعدة أمامية- لإسرائيل.. ما حقيقة الاتهامات الإيرانية لأذرب ...
- هل يمكن التحدث مع القطط والكلاب بواسطة الذكاء الاصطناعي؟
- عراقجي يرد بسخرية على تصريحات لنتنياهو بشأن قدرات إيران الصا ...
- أيمن عودة يتهم الجميع بالتواطؤ لعزله وهآرتس تدعو لمؤازرته
- خبير عسكري: جيش الاحتلال يواجه أزمة حادة ويفتقر لأهداف واضحة ...
- اقتحام الباستيل عام 1789.. يوم اقتلع الفرنسيون جذور النظام ا ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة