أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة














المزيد.....

الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 10:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



تشكّلت الهوية الأوروبية على مدار قرون طويلة من التفاعل المركب بين الدين، والفكر، والثقافة، والجغرافيا، والسياسة، مما جعلها هوية ديناميكية ومعقدة في آنٍ معًا. لقد قامت أوروبا ببناء ذاتها الجماعية على مجموعة من الركائز التي صاغت تصورها لذاتها وللآخر، وشكلت الأساس الصلب لما يُعرف اليوم بالمركزية الغربية. هذه الركائز لم تكن مجرد محطات عرضية في التاريخ، بل كانت عمليات طويلة ومركبة من التراكم الثقافي والتحول الاجتماعي والصراع الفكري، تمخضت عنها رؤية للعالم تتمحور حول الذات الأوروبية بوصفها المركز، والحضارات الأخرى بوصفها هامشًا أو "آخرًا" يجب ترويضه أو استيعابه أو تهميشه.

من أبرز هذه الركائز، تأتي المسيحية بصيغتها الكاثوليكية ثم البروتستانتية، حيث لعبت الكنيسة الغربية دورًا محوريًا في تشكيل الضمير الجمعي الأوروبي، وربطت بين خلاص الفرد وولائه للسلطة الدينية والسياسية. لقد أسهمت المسيحية في ترسيخ مفاهيم أخلاقية وروحية وجمالية، وخلقت شعورًا بالتمايز عن "الوثنيين" و"المسلمين" و"اليهود"، مما رسّخ ثنائية "نحن" و"هم". ثم جاءت الحداثة الأوروبية، كركيزة ثانية لا تقل أهمية، لتحدث قطيعة معرفية حادة مع المرجعيات السابقة، حيث شهدت أوروبا مع القرن السابع عشر صعود العقلانية والعلمنة والعلم التجريبي، وتم إعادة بناء تصورات الإنسان والطبيعة والمجتمع من منظور مادي وعقلاني صارم. لم ترفض أوروبا الدين فقط، بل أعادت إنتاج نفسها كذات عقلانية، فاعلة، ذات سيادة، قادرة على السيطرة على العالم، والتحكم في المستقبل، وصياغة الأنظمة.

وكانت الركيزة الفلسفية الثالثة هي الفكرة الليبرالية التي تمحورت حول الفرد بوصفه الوحدة الأساسية في النظام الاجتماعي والسياسي، بما يحمله من حقوق طبيعية لا تُمسّ، كحق الحرية والتملك والتعبير. ومن خلال هذه الفلسفة، تم تشكيل منظومة قانونية ومؤسسية جديدة ارتكزت على التعاقد الاجتماعي، والمساواة أمام القانون، والتفويض الديمقراطي، مما منح الذات الأوروبية شعورًا أخلاقيًا بالتفوق على باقي الأمم التي اعتُبرت "قبل-حداثية" أو "غير متمدنة". أما الركيزة الرابعة فكانت في التوسع الاستعماري، حيث أصبحت السيطرة على الجغرافيا والموارد والبشر جزءًا من بنية الهوية الأوروبية ذاتها. لم يكن الاستعمار مجرد مغامرة اقتصادية، بل مشروعًا أيديولوجيًا ذا حمولة فلسفية عميقة، عبّر عنها مثقفون وفلاسفة وسياسيون حين قدّموا "الرجل الأبيض" كرسول للحضارة، و"الآخر" ككائن ناقص أو بدائي أو عدو للحضارة يجب تهذيبه أو إخضاعه.

وقد تضافرت هذه الركائز لتُنتج ما بات يُعرف بـ"المركزية الغربية"، وهي رؤية للعالم تتعامل مع الذات الأوروبية بوصفها النموذج المعياري للتمدن والعقلانية والتقدم، وتضع سائر الحضارات في موقع التقليد أو التخلف أو الرفض. هذه المركزية لم تكن فقط رؤية ثقافية، بل منظومة متكاملة من القيم والمعايير والمؤسسات والأطر المعرفية التي فرضت نفسها عبر الهيمنة العسكرية والاقتصادية، ثم عبر النفوذ الأكاديمي والإعلامي والمؤسسي العالمي. فأوروبا لم تكتفِ بأن تبني ذاتها، بل سعت إلى إعادة تشكيل العالم على صورتها، فأنشأت الدولة الحديثة كنموذج معياري، وصدّرت العقلانية كأداة وحيدة للفهم، وروّجت للعلمانية كنهاية طبيعية للتاريخ الديني، وفرضت منظومات السوق والربح والعولمة بوصفها قانونًا كونيًا.

إن هذه الركائز التي قامت عليها الهوية الأوروبية والمركزية الغربية ليست محض إنتاجات داخلية بريئة، بل هي آليات ناعمة وخشنة للهيمنة. لقد تشكّلت عبر قرون من التوترات الداخلية والخارجية، من الصراعات المذهبية إلى الحروب الإمبريالية، ومن الإبادة والاسترقاق إلى النهضة الصناعية والعلمية، وكل مرحلة من هذه المراحل أضافت طبقة جديدة من الشرعية على وهم التفوق الأوروبي. لكن هذه الهوية التي قامت على الإقصاء، والهيمنة، وإنتاج "الآخر الأدنى"، باتت اليوم في مواجهة تساؤلات وجودية، مع صعود قوى عالمية جديدة، وتفكك المنظومة الأخلاقية والإنسانية الغربية أمام تحديات المناخ، والتكنولوجيا، والتفاوت الطبقي، والهجرة، وصدام الهويات.

إن تأمل ركائز الهوية الأوروبية لا يعني بالضرورة رفضها أو تبخيسها، بل يعني فهم الأسس التي قامت عليها هذه الهيمنة، وفهم كيف صيغت تصورات الذات والآخر، وكيف تحول الغرب من مجرد مكان جغرافي إلى مركز معرفي وسياسي وأخلاقي للعالم. وهذا الفهم العميق ضرورة ملحة لأي مشروع يسعى إلى استعادة التوازن في الساحة الدولية، أو بناء نماذج حضارية بديلة لا تدور في فلك المركز الغربي. فمعركة الوعي تبدأ من هنا: من تفكيك الأسطورة الأوروبية، لا من أجل تحقيرها، بل من أجل تحرير الإنسان من المركزية التي نصّبت نفسها معيارًا للوجود.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...


المزيد.....




- فيديو مرعب يُظهر حريقًا مميتًا بمبنى سنترال رمسيس في القاهرة ...
- العثور على وزير روسي ميتًا في سيارته بعيْد إقالته من قبل بوت ...
- ترامب -ينتظر الوقت المناسب- لرفع العقوبات عن إيران، والرئيس ...
- قتيلان في هجوم حوثي على سفينة في البحر الأحمر
- الكرملين ردا على استئناف مد أوكرانيا بالأسلحة: يطيل الحرب
- عامل توصيل يقتحم استوديو الأخبار... و-الإعلام- الكويتية تحقق ...
- ماسك يعلن توفر خدمة -ستارلينك- رسميا في قطر
- سوريا تطلب مساعدة الاتحاد الأوروبي لإخماد حرائق الساحل
- تقنيات بسيطة ضد الفيضانات لم تُستخدم في فيضانات تكساس! ما ال ...
- ترامب يخطر شركاء واشنطن التجاريين بدخول الرسوم الجمركية المر ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة