أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن هابرماس














المزيد.....

العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن هابرماس


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 10:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في خضم التحولات الفكرية التي عصفت بالقرن العشرين، وقف يورغن هابرماس كمفكر بارز يسعى إلى إنقاذ المشروع العقلاني للحداثة من التدهور والانحراف. ومن أبرز مفاهيمه النقدية التي تركت أثرًا بالغًا في حقل الفلسفة الاجتماعية والسياسية، مفهوم "العقل الأداتي"، والذي استخدمه لتشريح أزمة العقل الحديث في المجتمعات الصناعية المتقدمة. العقل الأداتي، في منظور هابرماس، هو الشكل المختزل من العقلانية الذي هيمن على أنماط التفكير والسلوك، بحيث أصبحت الغاية من العقل هي التحكم والسيطرة والتوظيف، لا الفهم أو التفاهم أو تحرير الإنسان. بهذا الشكل، يتحول العقل إلى أداة تقنية، تُستخدم لتحقيق أهداف براغماتية ومادية، بعيدًا عن أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية.

لقد استلهم هابرماس هذا المفهوم من الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، خصوصًا من أعمال ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في "جدل التنوير"، حيث كان العقل في رأيهم قد انحرف عن مهمته التنويرية الأصلية، وتحول إلى قوة هيمنة تابعة للأنظمة البيروقراطية والتقنية، وساهم في تبرير الاستغلال والتسلط بدلًا من مقاومته. لكن هابرماس تجاوز تشاؤمية هؤلاء المفكرين، وحاول إنقاذ العقل من خلال التمييز بين نوعين من العقلانية: العقل الأداتي (instrumental rationality)، الذي يسعى فقط إلى تحقيق النتائج، والعقل التواصلي (communicative rationality)، الذي ينشد الفهم والتوافق بين الذوات العاقلة في الفضاء العمومي.

في هذا السياق، اعتبر هابرماس أن الحداثة لم تفشل كليًا، لكنها انحرفت بسبب هيمنة العقل الأداتي على المجالات التي كان من المفترض أن تبقى مفتوحة أمام النقاش والتواصل الحر، مثل السياسة والثقافة والأخلاق. فعوضًا عن أن تكون هذه المجالات محكومة بالتفاهم والحوار الديمقراطي، أصبحت تخضع لمنطق السوق والإدارة، حيث يتم اختزال الإنسان إلى عنصر في شبكة معقدة من المصالح والتقنيات والعمليات البيروقراطية. وهكذا تنشأ "الاستعمار المنهجي للعالم المعيش"، كما وصفه هابرماس، أي أن البنى المنظّمة كالاقتصاد والدولة تتدخل في الحقول التي كان يجب أن تبقى حرة، وتفرض عليها منطق الكفاءة والنجاعة بدلًا من الحوار والقيمة.

ومع أن رؤية هابرماس لاقت قبولًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية، واعتُبرت محاولة جريئة لإعادة الاعتبار للعقلانية النقدية في زمن ما بعد الحداثة، إلا أنها لم تكن بمنأى عن الانتقادات. أول هذه الانتقادات تمحور حول الطابع المعياري المثالي لنموذجه التواصلي؛ فالكثير من النقاد رأوا أن "العقل التواصلي" كما يطرحه، يقوم على تصور متفائل وغير واقعي للغة والتواصل، ويفترض أن البشر دائمًا ما يسعون للحوار النزيه والتفاهم، وهو ما يتجاهل تعقيدات الواقع، والصراعات الأيديولوجية، وتفاوتات القوة والهيمنة داخل الخطاب نفسه.

كذلك وُجهت انتقادات من التيارات ما بعد البنيوية، خاصة من ميشيل فوكو وجاك دريدا، الذين رأوا أن خطاب هابرماس لا ينفصل عن الإرث الحداثي الذي سعى إلى فرض مركزية العقل واللغة المعيارية، وهي مركزية يرفضونها باعتبارها نوعًا من العنف الرمزي. فوكو، على وجه الخصوص، اعتبر أن كل خطاب عقلاني هو في جوهره ممارسة سلطة، وأن التفاهم الذي يتحدث عنه هابرماس لا يمكن فصله عن البنى السلطوية التي تُنتج الحقيقة وتنظم المجال الاجتماعي. أما دريدا، فاعترض على مفهوم "الوضع المثالي للكلام" عند هابرماس، معتبرًا إياه ضربًا من "الميتافيزيقا التوافقية"، التي تُقصي الاختلاف وتُغلّف الصراعات بمثالية لغوية لا وجود لها في الواقع الفعلي.

من جهة أخرى، هناك من انتقد مشروع هابرماس من منظور عملي، واعتبر أن تأكيده على التواصل العقلاني في الفضاء العمومي لا يأخذ بعين الاعتبار الانقسامات الطبقية والعرقية والجندرية التي تَحول دون مشاركة حقيقية ومتساوية في النقاش العمومي. أي أن "العقل التواصلي" يفترض نوعًا من التكافؤ الديمقراطي المسبق، في حين أن الواقع مشحون بالإقصاء البنيوي، والتمييز، والعنف الرمزي الذي لا يُمكن تجاوزه بمجرد الحوار.

وعلى الرغم من هذه الانتقادات، يظل مشروع هابرماس من أكثر المشاريع الفلسفية طموحًا في العصر الحديث. فمحاولته التفريق بين أشكال العقلانية، وإعادة الاعتبار للمجال العمومي كمكان للمداولات العقلانية، هي استجابة نقدية لما سمّاه هو ذاته "أزمة الشرعية" في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. لقد أراد أن يُنقذ الحداثة من نفسها، لا أن يهدمها، وأن يؤسس لنسق أخلاقي–اجتماعي جديد، يتجاوز المادية التقنية، دون أن يقع في هوة العدمية ما بعد الحداثية.

إن مفهوم العقل الأداتي عند هابرماس لا يُعد مجرد وصف فلسفي لحالة معرفية أو تقنية، بل هو تشخيص شامل لتحول مَرَضي في الوعي الإنساني، تحوُّلٍ أفرغ العقل من بعده التحرّري، وأفقد الإنسان قدرته على النقد والمقاومة، وجعل من أدوات التقدم أدواتٍ للهيمنة. وفي ظل التحديات المعاصرة، من الذكاء الاصطناعي إلى النظم الشمولية الرقمية، يعود سؤال هابرماس ليُلحّ من جديد: كيف يمكننا أن نستعيد العقل، لا كأداة، بل كوسيلة للتفاهم، والتحرر، وتحقيق الكرامة الإنسانية؟



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط
- صعود المؤثرين: قادة الرأي في زمن الخوارزميات
- صناع الوعي: الفلاسفة الذين أعادوا تشكيل العالم
- الانفجار العظيم: من لحظة البدء إلى حدود المعنى
- الاتصالات التسويقية المتكاملة في عصر الذكاء الاصطناعي: بين ا ...
- التأويل في قبضة المعنى: نحو فهم حتمي للاتصال بوصفه فعلاً إنس ...


المزيد.....




- صورة سيلفي لوزير مغربي مع أردوغان تثير انتقادات وردود فعل في ...
- سيارة همر -مسروقة- في دمشق تظهر ضمن سيارات الأمن السوري... ك ...
- -فضيحة الصندل-.. برادا تعترف باستلهام تصميمها من الصندل الهن ...
- مقتل 18 فتاة في -حادث المنوفية- يهز مصر وسط مطالب بإقالة وزي ...
- مئات الملايين والمليارات: حفلات زفاف باهظة الثمن في القرن ال ...
- ترامب: أنا -لا أعرض شيئا على إيران ولا أتحدث معهم-
- مشروع مغربي طموح يربط دول الساحل الإفريقي بالمحيط الأطلسي
- توتر الوضع الأمني في الشرق الأوسط : كيف يؤثر على خطة لبنان ل ...
- بعد شهر من الغياب.. العثور على جثة الطفلة مروة يشعل الغضب في ...
- حل مئات الأحزاب الأفريقية.. خطوة نحو التنظيم أم عودة لحقبة ا ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن هابرماس