أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمعي عبر العصور














المزيد.....

جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمعي عبر العصور


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 14:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د حمدي سيد محمد محمود
تُعدّ أديان شرق آسيا من أبرز العوامل التي شكّلت البنية العميقة للهوية الحضارية في تلك المنطقة من العالم. فقد لعبت أديان مثل الكونفوشيوسية، والطاوية، والبوذية، والشنتو دورًا محوريًا ليس فقط على المستوى الروحي، بل امتدت تأثيراتها لتطال النظم الاجتماعية، والهياكل الاقتصادية، والأنساق الثقافية، وحتى الممارسات السياسية. وفي عالم يتّجه نحو العولمة المادية، بقيت هذه الأديان بمثابة الجذور الممتدة في أعماق الوعي الجمعي لشعوب شرق آسيا، تؤثر في السلوك وتوجّه القرار وتضبط الإيقاع اليومي للحياة.

ففي الصين، على سبيل المثال، شكّلت الكونفوشيوسية نظامًا أخلاقيًا صارمًا يقوم على الانضباط والتراتبية والاحترام المتبادل بين الفرد والمجتمع. وقد انعكس ذلك على البنية الاجتماعية من خلال تقديس الأسرة، وتعظيم دور الأب، والولاء للسلطة، مما ساهم في بناء مجتمعات متماسكة ولكن هرمية في آنٍ واحد. أما اقتصاديًا، فقد ساعد هذا الإطار الأخلاقي على خلق ثقافة عمل قائمة على الجهد الجماعي، والالتزام، والاحترام العميق للتراتبية المؤسسية، وهو ما يُفسّر إلى حد كبير الانضباط العالي الذي ميّز تجربة الصين الصناعية الحديثة، رغم أنها لم تكن محكومة بدين تقليدي بالمعنى الغربي، بل بنظام قيمي فلسفي.

أما البوذية، التي انتشرت في الصين واليابان وكوريا وفيتنام والتبت وغيرها، فقد أدّت دورًا مزدوجًا بين الروحي والاجتماعي. فبتأكيدها على مفاهيم مثل الكارما (السبب والنتيجة) والتناسخ والتأمل، ساهمت في ترسيخ قيم مثل التسامح، والانفصال عن الجشع المادي، والتوازن الداخلي. وقد أنتجت هذه الرؤية نمطًا ثقافيًا يجنح نحو السلام الداخلي وتقدير البساطة، مما أثّر في السلوك العام للأفراد وفي العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات الآسيوية. وفي اليابان تحديدًا، كانت للبوذية، إلى جانب الشنتوية، دور مهم في تشكيل الوعي الجمالي والطقسي، الذي لا يزال واضحًا في الفنون والعمارة والاحتفالات الشعبية.

أما الطاوية، التي نشأت في الصين وتقوم على الانسجام مع قوى الطبيعة ومفهوم "التاو" (الطريق أو الجوهر)، فقد أثرت في الأنظمة الثقافية من خلال تعظيم فكرة التوازن بين الأضداد: القوة والضعف، الفعل والامتناع، الذكورة والأنوثة. وهذا التوازن، رغم كونه فلسفيًا، تم تحويله إلى مبدأ يُنظّم أنماط التفكير والحياة، حتى في السياسات العامة، حيث فضّل الحكّام المستنيرون – لا سيما في الفترات الإمبراطورية – الاستقرار والتدرّج وعدم الدخول في صدامات حادة، تأثرًا بالفكر الطاوي. كما لعبت الطاوية دورًا في الطب، والزراعة، وإدارة الموارد، بوصفها فلسفة تُعلي من شأن الانسجام مع الطبيعة وعدم الإكراه.

أما الشنتو، الديانة الأصلية في اليابان، فقد مثّلت ركيزة من ركائز الهوية القومية اليابانية. فبتركيزها على الأرواح المقدسة (كامي) والطقوس المرتبطة بالطهارة والانتماء للأرض، ساهمت في إنتاج تصور قومي عميق لدى اليابانيين، خاصة في العصور الحديثة. وقد استُخدمت الشنتو سياسيًا خلال فترة الإمبراطورية اليابانية لخلق هالة مقدسة حول السلطة، بحيث أصبح الإمبراطور يُقدّم بوصفه كائنًا إلهيًا يرتبط بالأجداد السماويين، وهي استراتيجية سياسية-دينية استُخدمت لتوحيد الشعب والتوسع الإمبريالي.

سياسيًا، فإن الأديان في شرق آسيا لم تكن مجرد نظم إيمانية، بل كانت أدوات لتشكيل السلطة وشرعنتها. فالإمبراطور في الصين كان يُلقّب بـ"ابن السماء"، وكانت الطقوس الدينية ضرورية لتثبيت شرعيته. وفي اليابان، كما سبقت الإشارة، لعبت الشنتوية دورًا سياسيًا واضحًا، وخاصة خلال القرن العشرين. وفي الوقت ذاته، لم تكن هذه الأديان في صدام دائم مع الحداثة، بل تم توظيفها أحيانًا لإضفاء طابع قومي على مشروعات التحديث، أو لتوفير غطاء أخلاقي لسياسات اقتصادية وتنموية واسعة.

وفي العمق الثقافي، يمكن القول إن تلك الأديان أسهمت في تشكيل الحسّ الجمالي لشعوب شرق آسيا: تقدير الصمت، احترام الطقوس، الميل إلى البساطة، وتقديس التوازن والانسجام. فحتى في السينما والأدب والفنون البصرية، نجد بصمات هذه الأديان حاضرة بقوة، ليس من خلال الرموز فقط، بل من خلال البنية السردية والرؤية الوجودية للأعمال.

إن أديان شرق آسيا لا يمكن فصلها عن الحياة اليومية لسكان تلك المنطقة، لأنها ليست مجرد عقائد، بل أنظمة حياة متكاملة، تشكّل طريقة التفكير والنظر إلى الذات والعالم. وهذه السمات تجعل من فهم هذه الأديان شرطًا ضروريًا لفهم النهوض الآسيوي الحديث، ليس فقط بوصفه ظاهرة اقتصادية، بل كتحوّل حضاري عميق له جذور روحية وفكرية ممتدة في آلاف السنين.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط
- صعود المؤثرين: قادة الرأي في زمن الخوارزميات
- صناع الوعي: الفلاسفة الذين أعادوا تشكيل العالم
- الانفجار العظيم: من لحظة البدء إلى حدود المعنى
- الاتصالات التسويقية المتكاملة في عصر الذكاء الاصطناعي: بين ا ...
- التأويل في قبضة المعنى: نحو فهم حتمي للاتصال بوصفه فعلاً إنس ...
- الحياد الكربوني والجيوسياسة: من البيئة إلى ميزان القوى العال ...
- الشعبوية الخوارزمية: كيف تُعيد الخوارزميات تشكيل التعبئة الس ...
- فؤاد الدجوي: قاضٍ بثياب جندي... وبندقية في صدر الكلمة
- الخصم المشترك: كيف أعادت الهند تشكيل الشراكة الصينية الباكست ...
- مسار الفلسفة الأوروبية من عصر النهضة حتى نهاية القرن العشرين ...
- من الطاعة إلى الانهيار: تفكيك بنية الدولة الشمولية
- الميتافيزيقا الرقمية: التحول الوجودي في ظل الذكاء الاصطناعي
- الإعلان الذكي بين الخوارزمية والضمير: الإنسان في قبضة السوق ...
- الإعلان في عصر الذكاء الاصطناعي: التحولات الاقتصادية والآفاق ...
- الهيمنة بلا مدافع: الصين وامريكا في سباق القوة الناعمة
- زمن الواجهة: حين تصنع الصورة مصير المؤسسة في العالم العربي


المزيد.....




- ما هي القاذفة الأمريكية الشبح -بي-2- التي تعول عليها إسرائيل ...
- رئيس الأركان الإسرائيلي: دمرنا نصف منصات إطلاق الصواريخ الإي ...
- تحمل اسم -باقري-.. العثور على حطام مُسيّرة إيرانية في جنوب ...
- إسرائيل.. حريق هائل وإصابات في استهداف صاروخي إيراني لمدينة ...
- فيديوهات الذكاء الاصطناعي تتنبأ بحرب عالمية ثالثة بطريقة ساخ ...
- إسرائيليون يفرون من القصف إلى الخارج عبر الأراضي المصرية
- الإعلامي السوري موسى العمر يعلن عن استثمارات ضخمة في جبل قاس ...
- حسّون في بلا قيود: إسرائيل من أقوى الدول النووية لكنها دولة ...
- خبير عسكري: إيران تستخدم صواريخ نوعية ومتطورة يصعب اعتراضها ...
- تمارين القوة.. سلاح ذكي لوقف زيادة الوزن المصاحبة لانقطاع ال ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمعي عبر العصور