أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مسار الفلسفة الأوروبية من عصر النهضة حتى نهاية القرن العشرين: من تحرير العقل إلى أزمة المعنى















المزيد.....

مسار الفلسفة الأوروبية من عصر النهضة حتى نهاية القرن العشرين: من تحرير العقل إلى أزمة المعنى


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 13:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إنّ تتبّع مسار الفلسفة الأوروبية منذ عصر النهضة حتى نهاية القرن العشرين يكشف عن رحلة فكرية معقدة، متشابكة، لكنها منسجمة في مداها الكلي، حيث يتجلى فيها الصراع بين الإنسان والسلطة، وبين العقل والإيمان، وبين الذات والعالم، وبين الحتمية والحرية. هذه الرحلة ليست فقط وصفًا لتحولات معرفية، بل هي أيضًا تعبير عن التحولات التاريخية والاجتماعية التي عصفت بالقارة الأوروبية وغيرت مصير العالم.

1. عصر النهضة: انبثاق الإنسان من رماد السلطة

يُمثل عصر النهضة (القرنين الرابع عشر والخامس عشر) بداية الانفكاك التدريجي عن القرون الوسطى، حيث استعاد الإنسان مركزيته في الكون بعد قرون من التبعية للمؤسسة الكنسية. وقد جاء هذا التحول نتيجة تراكمات ثقافية وفنية وعلمية وفلسفية، عكست روحًا جديدة تُعلي من شأن العقل والإبداع والكرامة الإنسانية. أعاد مفكرو النهضة – من أمثال إيرازموس وبيكو ديلا ميراندولا وليوناردو دا فنشي – إحياء التراث الكلاسيكي اليوناني-الروماني، وبلوروا مفاهيم جديدة مثل "الإنسان الكامل" و"حرية الإرادة"، وأرسوا بذلك اللبنات الأولى للنزعة الإنسانية (Humanism).

كان لهذا التحول المعرفي أثر بالغ في إعادة تعريف السلطة والمعرفة، حيث لم تعد الكنيسة وحدها مصدر الحقيقة، بل أصبح العقل البشري قادرًا على اكتشاف قوانين الطبيعة وتفسير الظواهر. وقد أوجد هذا الانقلاب المعرفي الشروط المسبقة لثورات لاحقة في العلم والسياسة والاقتصاد، لاسيما مع بزوغ الحداثة.

2. القرن السابع عشر: تأسيس العقلانية وميلاد العلم الحديث

في القرن السابع عشر، تبلورت الفلسفة الأوروبية حول مركزية العقل بوصفه معيارًا للمعرفة واليقين. وقد تجلّى ذلك بشكل خاص في فلسفة رينيه ديكارت، الذي أعلن في مشروعه الفلسفي: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، مؤسسًا بذلك لما سُمّي بـ"الكوجيتو"، وهو لحظة مفصلية في تاريخ الفلسفة، حيث أصبحت الذات العارفة هي نقطة الانطلاق لكل معرفة ممكنة.

في الوقت ذاته، جاءت فلسفة فرانسيس بيكون بمناهج تجريبية أسست لأفق العلم الحديث القائم على الملاحظة والتجربة، وأعادت توجيه الفلسفة من التأملات الماورائية إلى معالجة العالم الطبيعي. هذا التوازي بين العقلانية والتجريبية مهّد الطريق لما سُمي بـ"الحداثة المبكرة"، حيث امتزجت الفلسفة مع العلم والسياسة لتشكيل عالم جديد قوامه السيطرة على الطبيعة وتقدم الإنسان.

3. القرن الثامن عشر: الأنوار والفكر النقدي

كان القرن الثامن عشر قرن التنوير بامتياز، حيث بلغت الفلسفة الأوروبية ذروة نضجها من خلال حركة فكرية نقدية واجتماعية عُرفت باسم "فلسفة الأنوار"، وكان روادها فولتير، جان جاك روسو، مونتسكيو، ديدرو، وكانط. وقد تميزت هذه الفلسفة بإعلاء قيمة العقل والنقد والحرية والعدالة، والدعوة إلى التسامح الديني ونقد التسلط السياسي.

جاء إيمانويل كانط ليُجسد القطيعة الكبرى مع الفلسفة الميتافيزيقية السابقة، حيث طرح مشروعه النقدي في كتابه "نقد العقل الخالص"، مؤسسًا بذلك لما سُمّي بـ"الفلسفة النقدية"، التي تساءلت عن شروط إمكانية المعرفة ذاتها. في فلسفته، لم يعد العقل مطلقًا، بل مشروطًا ببنية مسبقة تنظم التجربة. لقد قدّم كانط تصورًا ثوريًا عن الإنسان كمشرّع للمعنى، وفتح الطريق أمام الفلسفة المثالية الألمانية في القرن التالي.

4. القرن التاسع عشر: الذات، التاريخ، وصراع الحداثة

شهد القرن التاسع عشر انفجارًا فلسفيًا تمثل في الفلسفة المثالية الألمانية (فيخته، شيلينغ، هيغل)، التي أولت أهمية قصوى للذات والتاريخ والعقل المطلق. وكان هيغل الأبرز بينهم، حيث قدّم جدلية العقل والتاريخ عبر مفهوم "الروح المطلقة"، مؤكدًا أن الحرية تتحقق عبر الصراع داخل الزمان.

لكن هذه المثالية واجهت نقدًا حادًا من كارل ماركس، الذي قلب ديالكتيك هيغل رأسًا على عقب، وركّز على البنية المادية للتاريخ، مؤسسًا بذلك للفلسفة المادية التاريخية التي ستؤثر عميقًا في الفكر السياسي والاجتماعي خلال القرنين التاليين. في المقابل، جاء سورين كيركغارد ليؤكد على الفرد والاختيار الشخصي في مواجهة الاغتراب الناتج عن العقلانية الشمولية.

وكان فريدريك نيتشه من أبرز من نقدوا الحداثة، حيث أعلن "موت الإله"، في إشارة إلى انهيار الأسس الميتافيزيقية للأخلاق والدين والمعنى، مبشرًا بعصر جديد يُعاد فيه خلق القيم. بهذا، مهد نيتشه لظهور تيارات ما بعد الحداثة التي ستزدهر في القرن العشرين.

5. القرن العشرون: تمزق الحداثة وتعدد الفلسفات

دخلت الفلسفة الأوروبية القرن العشرين وهي مثقلة بإرث الحروب العالمية، والأزمات الاقتصادية، وانهيار اليقين العقلاني، فتعددت التيارات وتنافرت الأنساق. ظهرت الفينومينولوجيا مع هوسرل، التي دعت إلى العودة إلى "الأشياء ذاتها"، أي إلى الخبرة المباشرة قبل تأطيرها نظريًا، وتبعه هايدغر بفلسفته الوجودية التي أعادت سؤال الكينونة إلى صدارة الفكر.

ثم جاء سارتر وميرلوبونتي في فرنسا ليبشرا بـ"الوجودية"، التي أكدت على القلق والحرية والاختيار الفردي، في عالم خالٍ من المعنى الجاهز. تزامن ذلك مع بروز مدرسة فرانكفورت (أدورنو، هوركهايمر، ماركوز) التي طرحت نقدًا جذريًا للعقل الأداتي الذي تحوّل، من أداة تحرير إلى وسيلة قمع.

أما في النصف الثاني من القرن، فقد انفجرت ما بعد الحداثة بوصفها موقفًا نقديًا من العقلانية، الشمولية، والسرديات الكبرى. ظهر ميشيل فوكو بنقده للمؤسسات والسلطة والمعرفة، ودريدا بتفكيكيته التي شككت في استقرار المعنى، وليوتار الذي أعلن "نهاية الحكايات الكبرى" (Grand Narratives).

خلاصة المسار: من مركزية الذات إلى انعدام اليقين

إنّ المسار الفلسفي الأوروبي من النهضة إلى نهاية القرن العشرين يكشف عن مسيرة تحرر طويلة بدأت بإزاحة السلطة الدينية لصالح العقل، ثم شهدت تمجيدًا للعلم والتقدم، قبل أن تصطدم بالنتائج الكارثية للحداثة، من حروب إبادة إلى استلاب الإنسان. وقد انتهى المطاف بالفكر الأوروبي إلى التفكيك والتشكيك في كل يقين، في ظل عالم سريع التحول ومفتقر للأسس الثابتة.

ومع أن هذا المسار يبدو وكأنه انتهى إلى حالة من التمزق، إلا أنه في جوهره يعكس دينامية داخلية للتاريخ الأوروبي، تبحث باستمرار عن إجابة لسؤال المعنى، وعن توازن بين الحرية والسلطة، بين الذات والعالم، بين المعرفة والوجود. هذه الدينامية لم تظل حبيسة القارة الأوروبية، بل امتدت لتؤثر في كل بقاع الأرض، وتعيد تشكيل الفكر الإنساني الحديث في كل مستوياته الفلسفية والسياسية والأنثروبولوجية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الطاعة إلى الانهيار: تفكيك بنية الدولة الشمولية
- الميتافيزيقا الرقمية: التحول الوجودي في ظل الذكاء الاصطناعي
- الإعلان الذكي بين الخوارزمية والضمير: الإنسان في قبضة السوق ...
- الإعلان في عصر الذكاء الاصطناعي: التحولات الاقتصادية والآفاق ...
- الهيمنة بلا مدافع: الصين وامريكا في سباق القوة الناعمة
- زمن الواجهة: حين تصنع الصورة مصير المؤسسة في العالم العربي
- المواطن في قبضة الشاشة: كيف أعادت الرقمنة تشكيل وعينا السياس ...
- مناخ الصراع: نحو دبلوماسية بيئية شاملة لأمن عالمي مستدام
- أزمة العلم المتصدع: من اليقين التجريبي إلى سيولة المعرفة
- وداعاً للهاتف الذكي: بداية الوعي التكنولوجي الجديد
- الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة
- الحياد الكربوني والاقتصاد: من منطق الربح إلى منطق البقاء
- الخوارزمية والدبلوماسية: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل العلاقا ...
- حروب الخوازميات: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ميزان القوى ...
- الوحدة العربية: بين معطيات الواقع وإمكانات التحقق
- علمنة التعليم في المجتمعات العربية: بين تحديات الهوية وآفاق ...
- السيادة العسكرية في عصر الذكاء الاصطناعي: من السيطرة التقليد ...
- الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل وظائف العلاقات العامة الدولية: ...
- ديمقراطية على الهامش: قراءة نقدية في انسحاب الوعي المدني من ...
- أكذوبة القرن: كيف صاغت أمريكا الرواية الكبرى لغزو أفغانستان ...


المزيد.....




- ضجة يشعلها المستشار الألماني بكشف -وثيقة- عن جد ترامب بلقاء ...
- بعد تصريحات ماسك الصادمة.. شاهد كيف رد ترامب مع استمرار السج ...
- ذكّر بهروبه من سوريا.. أول رد من محمود خليل أمام القضاء الأم ...
- فيديو يظهر لحظة وقوع غارات إسرائيلية عنيفة في الضاحية الجنوب ...
- المناخ يهدد المواشي، فهل يصبح الأضحى بلا أضحية؟
- لماذا تضاعفت الاعتداءات المعادية للسامية في ألمانيا؟
- -التزاوج القاتل-.. سلاح غير تقليدي يقضي على البعوض ويحارب ال ...
- -هدية العيد- من السلطات السورية الجديدة لعوائل جنود وضباط من ...
- الشرطة الأمريكية تعتقل تمساحا للاشتباه بكونه ديناصورا! (صور) ...
- فولودين: زيلينسكي شخصيا مسؤول عن الهجمات الإرهابية ضد المدني ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مسار الفلسفة الأوروبية من عصر النهضة حتى نهاية القرن العشرين: من تحرير العقل إلى أزمة المعنى