أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - المواطن في قبضة الشاشة: كيف أعادت الرقمنة تشكيل وعينا السياسي؟














المزيد.....

المواطن في قبضة الشاشة: كيف أعادت الرقمنة تشكيل وعينا السياسي؟


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 00:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في العصر الرقمي المتسارع، لم يعد التحول الرقمي مجرد نقلة تكنولوجية أو تطويرًا في أدوات التواصل، بل أصبح عملية شاملة لإعادة تشكيل النفس البشرية، وبشكل خاص النفس السياسية. لم يعد المواطن كيانًا سياسيًا يتفاعل مع محيطه ضمن سياقات فكرية أو أيديولوجية متماسكة، بل تحول إلى فرد رقمي تستهلكه الصور، وتُغرقه الخوارزميات، وتُعاد برمجته ضمن شبكات افتراضية تُعيد تشكيل مداركه وانفعالاته وسلوكياته بشكل غير مرئي.

ففي السابق، كان الانخراط في الشأن العام يتطلب جهدًا معرفيًا، وتكوينًا ثقافيًا، وإحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه القضايا العامة. أما اليوم، فإن المواطن الرقمي يتعامل مع السياسة كما يتعامل مع أي سلعة رقمية: يقيمها، يتصفحها، يضغط عليها، ويهجرها دون عناء. لقد تحوّل الفعل السياسي من ممارسة نقدية واعية إلى سلوك استهلاكي لحظي، يخضع لمعايير "الترند" وسرعة التفاعل، ولا يمنح صاحبه الوقت الكافي للتأمل أو التمحيص. بهذه الصورة، لم تعد القضايا السياسية تُناقش ضمن فضاءات فكرية عقلانية، بل ضمن غرف رقمية تسودها الإثارة، وتُهيمن عليها الانفعالات، وتختزل فيها المعارك الفكرية إلى تعليقات عابرة أو رموز تعبيرية.

أخطر ما في التحول الرقمي هو تأثيره العميق في إدراك الزمن السياسي. فكل حدث، مهما كان ضخمًا، يُستهلك خلال دقائق معدودة، ثم يُستبدل بغيره. لا مكان للتراكم أو التأمل أو الربط بين الماضي والحاضر. تقلص الزمن إلى مجرد "لحظة رقمية"، يتحدد فيها الموقف وفقًا لما يظهر على الشاشة، لا وفقًا لما يقتضيه المنطق أو التاريخ أو المصلحة العامة. بهذه السرعة، يُختزل الواقع، وتُبتر السياقات، وتُفقد السياسة قدرتها على التأثير العميق والمستدام.

التفاعل اللحظي على منصات التواصل يحرم المواطن الرقمي من التفكير التحليلي، فبدلًا من التأمل، يُستدرج إلى ردود فعل فورية؛ وبدلًا من النقاش الجاد، يُدفع إلى اللهاث وراء اللايكات والمشاركات. ما يُنشر هو ما يُشعل الانفعالات، لا ما يُثير الأسئلة. وما يُعاد تداوله هو ما يُرضي القطيع الرقمي، لا ما يُحرض على التفكير المستقل. وهكذا، يُعاد تشكيل الوعي السياسي ضمن دوائر مغلقة من التكرار السطحي، حيث تسود الآراء الجاهزة، وتغيب القدرة على الاستيعاب النقدي والتحليل الرصين.

وما يضاعف من خطورة هذا الواقع، هو أن المواطن الرقمي لا يتحرك بمفرده، بل ضمن جماعات افتراضية تُظهر تماسكًا زائفًا يخفي وراءه نماذج مبرمجة من السلوك السياسي. يتم دفع هذه الجماعات إلى مواقف معينة عبر خوارزميات دقيقة، تُصمم لتوجيه الرأي العام وصناعة الإجماع الوهمي. يتكرس في هذا السياق نوع جديد من الطاعة السياسية، طاعة لا تقوم على الإقناع، بل على المحاكاة والامتثال الجماعي، حيث يغدو الاختلاف شذوذًا، والنقد خيانة، والتفكير المستقل خروجًا عن الصف.

ولعل أبرز ملامح هذه الحقبة هو تآكل الفاصل بين المجال العام والخاص. فالمواطن الرقمي أصبح يعرض ذاته بالكامل داخل الفضاء العام: أفكاره، مشاعره، تفاصيل يومه، وكلها تُستهلك سياسياً. لم تعد السياسة تعني نقاشًا عامًا حول قضايا مصيرية، بل تحوّلت إلى فضاء مشبع بالذاتية والانفعالات، حيث تُختزل القضايا العامة في التجارب الفردية، ويتم تسييس العاطفة بدلًا من عقلنة القرار.

في هذا السياق المتشابك، لم تعد السياسة ممارسة حرة للتفكير واتخاذ القرار، بل أصبحت حقلًا مشحونًا بالصور والبيانات والانفعالات الموجهة. المواطن الرقمي، من حيث يدري أو لا يدري، يعيش داخل منظومة من التوجيه الخفي، تخضع وعيه لإيقاع الخوارزميات، وتعيد إنتاج مواقفه ضمن مساحات مُهيمنة من التدجين الثقافي والسياسي. والمفارقة أن هذا المواطن يشعر بأنه أكثر تحررًا من أي وقت مضى، بينما هو في الحقيقة أكثر خضوعًا من أي زمن سابق، فقط لأن القيد هذه المرة لا يُفرض عليه من الخارج، بل يُبنى داخل وعيه، ويصاغ من شاشته، ويُشعل من تفاعله اليومي.

إن فهمنا العميق لهذا التحول يتطلب منا نقدًا جذريًا للبيئة الرقمية ذاتها، لا لأفكار الأفراد فقط. فالتحرر لا يكون عبر المزيد من التغريد، بل من خلال استعادة أدوات التفكير، والانفصال الواعي عن سطوة اللحظة، والعودة إلى المعنى السياسي الأصيل بوصفه مسؤولية وفعلًا إنسانيًا حرًا، لا مجرد انفعال رقمي عابر.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناخ الصراع: نحو دبلوماسية بيئية شاملة لأمن عالمي مستدام
- أزمة العلم المتصدع: من اليقين التجريبي إلى سيولة المعرفة
- وداعاً للهاتف الذكي: بداية الوعي التكنولوجي الجديد
- الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة
- الحياد الكربوني والاقتصاد: من منطق الربح إلى منطق البقاء
- الخوارزمية والدبلوماسية: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل العلاقا ...
- حروب الخوازميات: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ميزان القوى ...
- الوحدة العربية: بين معطيات الواقع وإمكانات التحقق
- علمنة التعليم في المجتمعات العربية: بين تحديات الهوية وآفاق ...
- السيادة العسكرية في عصر الذكاء الاصطناعي: من السيطرة التقليد ...
- الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل وظائف العلاقات العامة الدولية: ...
- ديمقراطية على الهامش: قراءة نقدية في انسحاب الوعي المدني من ...
- أكذوبة القرن: كيف صاغت أمريكا الرواية الكبرى لغزو أفغانستان ...
- قوة البخار وحدود العالم: الآلة البخارية كأداة للغزو البريطان ...
- النسوية والتأويل: قراءة نقدية في مشروع التفسير النسوي للقرآن ...
- العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين
- الهيمنة الناعمة: المركزية الأوربية واستعمار الذات والهوية
- عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة
- جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر ...
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث


المزيد.....




- -تُبت إلى الله-.. داعية مصري يثير التكهنات حول اعتزال المطرب ...
- طهران تهدد بالردّ الصارم على أي خطوة إسرائيلية متهورة
- جولة مفاوضات ثانية في إسطبول بين الروس والأوكرانيين
- إيران: سنرد على المقترحات الأمريكية وفق مصالحنا الوطنية والت ...
- السيسي يلتقي وزير خارجية إيران ويحذر من حرب شاملة
- تركيا تأمل بأن يتم في نهاية المطاف لقاء بين بوتين وزيلينسكي ...
- غروسي يؤكد دور مصر -الواضح- في محاولة تسوية الملف النووي الإ ...
- السعودية.. حجّاج من الصين ينظفون شوارع مكة المكرمة
- مباحثات أمنية بين مديري المخابرات السودانية والإثيوبية في بو ...
- مغردون: هجوم أوكرانيا على روسيا يستدعي ذكريات بيرل هاربر ومخ ...


المزيد.....

- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - المواطن في قبضة الشاشة: كيف أعادت الرقمنة تشكيل وعينا السياسي؟