أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة














المزيد.....

عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 16:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يُعد عبد الله بن محمد التعايشي أحد أبرز القادة السياسيين والعسكريين في التاريخ السوداني الحديث، إذ تبوأ موقع الخليفة بعد وفاة المهدي محمد أحمد، وقاد الدولة المهدية بين عامي 1885 و1898 في واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ السودان. نشأ التعايشي في بيئة قبلية تنتمي لقبائل التعايشة، إحدى بطون البقارة القوية المنتشرة في إقليم دارفور. وقد انخرط مبكرًا في حركة المهدي المنتظر محمد أحمد، التي جمعت بين الطابع الديني والسياسي، حيث كان من أوائل من آمنوا برسالة المهدي وشاركوا في معاركه الأولى، مما أكسبه ثقة الزعيم الروحي الأعلى آنذاك، ونفوذًا متصاعدًا داخل الهيكل القيادي للحركة.

كان التعايشي نموذجًا لقائد يجمع بين الورع الديني والحس السياسي، فقد تشبّع بالفكر الصوفي المنتشر في ربوع السودان، وهو ما ساعده على فهم آليات التأثير الشعبي والتعبئة الدينية في بيئة تقليدية تُقدّس الأولياء وتوقّر الرموز الدينية. وقد ساعد انتماؤه لقبائل البقارة، التي طالما نُظر إليها من قبل النخب النيلية بريبة وتوجس، على تمثيل الكتلة الغربية المهمّشة آنذاك، ممّا جعله لاحقًا محور صراع قبلي وإقليمي داخل الدولة المهدية نفسها.

بعد وفاة المهدي عام 1885، واجهت الدولة المهدية تحدّيًا محوريًا في مسألة الخلافة. استطاع عبد الله التعايشي، بفضل نفوذه العسكري وتنظيمه القوي لأنصاره من الغرب، أن يتغلّب على معارضي الخلافة من أبناء المهدي وأنصاره المقربين، ليكرّس نفسه "خليفة المهدي" في مشهد سياسي ألبس فيه سلطته غطاءً دينيًا مهدويًا مقدسًا. هذا الانتقال أفرز بنية سلطوية مركزية، ركّز فيها التعايشي الحكم في شخصه، واستند على قوة أهل الثقة من أنصاره القبليين، مما أحدث خللًا واضحًا في توازنات القوى داخل الدولة الناشئة، وأسّس لاحقًا لانقسامات داخلية ساهمت في سقوط النظام.

تميّز حكم التعايشي بمحاولات جادة لبناء مؤسسات الدولة على قاعدة دينية وثيوقراطية مستمدة من مبادئ المهدي. فقد سعى إلى تنظيم الحياة وفق الشريعة الإسلامية، وأعاد هيكلة القضاء، وفرض الضرائب والجزية، وشكّل نظامًا بيروقراطيًا بدائيًا. غير أن هذه الجهود اصطدمت بجملة من التحديات، أبرزها اتساع الدولة وتنوعها العرقي والديني، فضلًا عن مقاومة بعض القبائل السودانية للسلطة المركزية، خاصة من الشماليين الذين رأوا في الخليفة تمثيلًا للهيمنة الغربية والبقارية. كما اتُّهم الخليفة بإقصاء المكونات الأخرى من الدولة، وتغليب عصبية أهله من التعايشة، وهو ما ولّد سخطًا داخليًا متصاعدًا. وبالرغم من محاولاته الإصلاحية، إلا أن الوضع الاقتصادي تدهور بفعل الحصار الأجنبي، وتراجعت حركة التجارة، واندلعت المجاعات في بعض المناطق، وهو ما زاد من الاضطرابات الداخلية.

اتّسمت السياسة الخارجية في عهد التعايشي بمحاولات لمواجهة التوسع الإمبريالي البريطاني-المصري المتزايد. كانت الدولة المهدية تمثل تهديدًا مباشرًا لمصالح الإمبراطورية البريطانية في وادي النيل، خاصة بعد انسحاب الجيوش المصرية من السودان. دخل الخليفة في مواجهات عسكرية مع القوات الإثيوبية، كما حاول مدّ نفوذه نحو أفريقيا الوسطى. لكن التحدي الأكبر جاء من إعادة احتلال السودان، وهي الحملة التي قادها اللورد كتشنر سنة 1896، بدعم من بريطانيا ومصر. شهدت المعارك الأخيرة في أم درمان (كرري) عام 1898 واحدة من أكثر المواجهات دموية في تاريخ الاستعمار الحديث، حيث سُحقت القوات المهدية بفعل التفوق التكنولوجي البريطاني، لتنهار الدولة نهائيًا وتُقتل الحلم المهدوي بسيف الاستعمار، وينتهي المطاف بالخليفة عبد الله التعايشي مقتولًا في معركة أم دبيكرات في عام 1899.

كان عبد الله التعايشي قائدًا استثنائيًا في بيئة غير مستقرة، حاول الجمع بين الحماسة الدينية وبناء الدولة الحديثة في لحظة تاريخية صعبة. غير أن إخفاقه في إدارة التنوع الداخلي، واعتماده المفرط على الولاءات القبلية، وعدم قدرته على مأسسة السلطة، جعلت مشروعه السياسي هشًا وعرضة للانهيار. كما أن غلبة الطابع العسكري والديني على تفكيره حالت دون تبني سياسات تنموية أو إصلاحية فاعلة. مع ذلك، فإن التعايشي يظل شخصية محورية في التاريخ السوداني، يجسد مرحلة ما بعد انهيار الحكم العثماني-المصري، ومحاولة لبناء سلطة وطنية تستند على مرجعية دينية سودانية خالصة. وقد ألهمت تجربته لاحقًا العديد من الحركات السودانية في مقاومتها للاستعمار.

يحتل عبد الله التعايشي موقعًا متناقضًا في الذاكرة السودانية؛ فهو من جهة يُعد من أبرز قادة المقاومة السودانية للاستعمار الإنجليزي، ومن جهة أخرى يُحمّل مسؤولية سقوط الدولة المهدية بفعل سياساته الإقصائية والفكر الديني الجامد. لقد مثّلت تجربته محاولة أولى، وإن كانت ناقصة، لتأسيس دولة ذات سيادة في قلب إفريقيا تقاوم السيطرة الغربية. وهو ما يجعل من دراسة هذه المرحلة ضرورة لفهم آليات الصراع بين المحلي والكولونيالي، بين الدين والدولة، وبين القبيلة والوطن.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر ...
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث
- الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...
- نيران القرون الوسطى: تاريخ الحروب في أوربا
- الانفصال العظيم: صعود الصين وكسر القبضة الأمريكية على الفضاء ...
- من العقيدة إلى الدستور: معالم الدولة عند المودودي
- عقل الدولة وهيمنة الفكرة: الدولة عند هيجل بين الفلسفة والسيا ...
- حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر
- إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...


المزيد.....




- مكالمة حاسمة بين ترامب وبوتين.. فانس: الرئيس سيواجهه بهذه ال ...
- تصريح جديد من البيت الأبيض حول طائرة قطر الفاخرة
- الجيش المصري يعلن سقوط طائرة تدريب عسكرية ومصرع طاقهما
- الجزائر تتوعد فرنسا برد حازم
- حملات مقاطعة وموجة غضب جماهيري تدفع شركة اتصالات مصرية لحذف ...
- زيلينسكي: لا نخشى المحادثات المباشرة مع روسيا ومن المهم ألا ...
- لحظة اصطدام السفينة البحرية المكسيكية بجسر بروكلين
- الرفيق محمد عواد يوجّه سؤالاً إلى كل من السيد وزير العدل وال ...
- قائد الجيش يعين مسؤولا أمميا سابقا رئيسا لوزراء السودان
- خمس سنوات على -بريكست-.. لندن تعيد بناء علاقاتها مع بروكسل


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة