أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول














المزيد.....

الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8346 - 2025 / 5 / 18 - 11:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
الفساد لا يمثل مجرد اختلال إداري أو خلل مالي داخل مؤسسات الدولة، بل هو منظومة متكاملة تتغلغل في البنية العميقة للحكم، وتعمل على تقويض الأسس التي تقوم عليها الدول. حين يُصبح النفوذ سلعة تُشترى، والمناصب تُوزع بناء على الولاء لا الكفاءة، وحين تُهمَّش معايير النزاهة والشفافية لصالح شبكات المصالح والانتهازية، يتحول النظام السياسي من جهاز لخدمة الصالح العام إلى أداة لحماية الامتيازات، ويتحول المجتمع من كيان متماسك إلى كتل متنافرة تفتقد الثقة المتبادلة. الفساد لا يُنتج فقط اختلالًا في الإدارة والاقتصاد، بل يُعيد تشكيل الثقافة العامة، ويُفرغ الدولة من مضمونها الأخلاقي.

عبر التاريخ، كانت بداية الانهيار في الإمبراطوريات الكبرى تُعلن نفسها من خلال تراكم الفساد، لا فقط بالغزو الخارجي أو الهزائم العسكرية. فالإمبراطورية الرومانية مثلًا، لم تنهَر بين يوم وليلة، بل بفعل تراكم طويل من الانحلال الإداري، واللامبالاة السياسية، وتحول الجيش إلى أداة في يد نخب فاسدة. الدولة العباسية كذلك، ضعفت حينما تغوّلت البيروقراطية على حساب المشروع الديني والعلمي والسياسي، وحين تحولت السلطة إلى وسيلة للثراء السريع، واستُبدل الولاء للمبادئ بولاء لأصحاب النفوذ. سقوط هذه الكيانات لم يكن مصادفة، بل نتيجة حتمية لمنظومة فساد عميقة سحقت مقومات الصمود الداخلي.

الفساد يُقوّض الأمن القومي من الداخل، لأنه يُزعزع ثقة المواطن في الدولة، ويغذّي مشاعر الظلم والتهميش، ويفتح الباب أمام الانقسامات. حين يشعر المواطن أن القانون لا يُطبّق إلا على الضعفاء، وأن الحقوق تُشترى، وأن العدالة تُدار من خلف الكواليس، فإن انتماءه يتآكل، وولاءه يتبدد، ويتحول من شريك في الوطن إلى ضحية له. في هذا السياق، يغدو الفساد خطرًا أمنيًا وجوديًا، لأنه يزرع بذور الانفجار، ويمهد الأرض لحركات التمرد والاحتجاج وحتى التدخلات الخارجية.

على المستوى الاقتصادي، يؤدي الفساد إلى سوء استخدام الموارد، وتدمير الثقة في بيئة الأعمال، وهروب الكفاءات. المشاريع الكبرى تُمنح لمن يدفع أكثر لا لمن ينجز أفضل، والضرائب تُجمَع لا لتطوير الخدمات، بل لتمويل أنماط حياة طبقة متنفذة. القطاع العام يتضخم بالبطالة المقنّعة، والقطاع الخاص يُخنق بالقوانين المتحيزة، وتتراجع الدولة تدريجياً عن دورها كفاعل تنموي لصالح تحويلها إلى مزرعة خاصة لأصحاب النفوذ. الفساد يخلق اقتصادًا طفيليًا هشًا، غير منتج، وغير قادر على الصمود أمام الأزمات.

الأخطر من ذلك كله هو حين يتحول الفساد إلى ثقافة سائدة. حين يُنظر إلى الرشوة على أنها ضرورة، وإلى السرقة من المال العام على أنها "شطارة"، تُصبح منظومة القيم مقلوبة، ويتحوّل الفساد من استثناء إلى قاعدة. حين تُصبح المعايير الأخلاقية محل سخرية، ويُحتفى بالتحايل، وتُهان النزاهة، لا يبقى هناك ما يحمي المجتمع من التفكك القيمي. فساد الدولة في هذه الحالة لا يعود فقط أزمة سياسية أو اقتصادية، بل أزمة حضارية.

وفي ظل فساد كهذا، تتآكل الشرعية السياسية. الحكومات التي تبني سلطتها على الشبكات الزبائنية، وتُقصي المعارضة، وتحتقر الرأي العام، وتنهب خيرات البلاد، لا يمكنها أن تبقى في نظر شعوبها ممثلة للسيادة أو الحُكم الرشيد. قد تصمد بالحديد والنار، لكنها تُفقد كل قيمة أخلاقية أو رمزية، وتصبح وجودها عبئًا على الوطن. وحين تنهار الشرعية، تتهاوى معها كل أعمدة النظام، وتغدو الثورة أو الانهيار مجرد مسألة وقت.

من أخطر نتائج الفساد أيضًا أنه يفتح الباب للتبعية الخارجية، إذ تفقد الدولة قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية حرة. الأنظمة الفاسدة كثيرًا ما ترتمي في أحضان قوى خارجية لحماية بقائها، وتُبرم اتفاقات مشبوهة مقابل الدعم، وتُفرط في الموارد الوطنية لتأمين مصالحها الضيقة. بذلك يُصبح الفساد ليس فقط خطرًا داخليًا، بل مدخلًا لفقدان السيادة نفسها، وتحوّل الدولة إلى أداة في يد أطراف أجنبية.

في نهاية المطاف، الفساد لا يُدمّر الدول بانفجارات مدوية، بل يُنهكها بصمت، يفتت قواها من الداخل، ويسحب منها روحها. إنه الخطر الذي يُفتك من الداخل، ويُمهّد الطريق للانهيار تحت وطأة الفوضى أو الاستبداد أو الاحتلال. الدول التي لا تواجه الفساد بصرامة وجدية، لا يمكنها أن تبني مستقبلًا، ولا أن تحافظ على حاضرها، بل هي تسير في طريق السقوط، ولو بدا ظاهرها صلبًا أو مستقرا.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...
- نيران القرون الوسطى: تاريخ الحروب في أوربا
- الانفصال العظيم: صعود الصين وكسر القبضة الأمريكية على الفضاء ...
- من العقيدة إلى الدستور: معالم الدولة عند المودودي
- عقل الدولة وهيمنة الفكرة: الدولة عند هيجل بين الفلسفة والسيا ...
- حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر
- إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...


المزيد.....




- تحليل.. قطر تعمل كأمم متحدة مصغرة.. وترامب يتمنى أن تكون أمر ...
- مديرية أمن طرابلس تعلن إعادة فتح الطرق المغلقة (فيديو+صور)
- بوتين يحدد أهداف الكرملين في حرب أوكرانيا: القضاء على أسباب ...
- كشمير: عودة سكان القرى الحدودية إلى بيوتهم المدمرة بعد الاشت ...
- مخيم اليرموك: عاصمة الشتات الفلسطيني تنهض من بين الركام ودون ...
- مصرع 17 شخصا بينهم أطفال في حريق مروع بمدينة حيدر أباد الهند ...
- ليبيا.. عصيان للطلبة حتى انسحاب المسلحين من محيط جامعة طرابل ...
- النيجر تستعد لاستقبال 4 آلاف مهاجر مرحلين من الجزائر
- الرئاسة اللبنانية توضح حقيقة لقاء عون وزعيم دروز إسرائيل (صو ...
- ثوران بركان -كيلاويا- في هاواي


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول