أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة














المزيد.....

المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 08:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تعد الإبستمولوجيا، أو نظرية المعرفة، حجر الزاوية في تفكيك الأسس المعرفية التي يقوم عليها علم السياسة. فهي ليست مجرد تأمل في طبيعة المعرفة السياسية، بل هي تقصٍّ نقدي في طرق إنتاجها، وصلاحية أدواتها، وحدودها ومآلاتها. يتجاوز الطرح الإبستمولوجي في علم السياسة مجرد السؤال عن "ماذا نعرف عن السياسة؟"، ليغوص في "كيف نعرف؟ ولماذا نعرف؟ وبأي شروط يمكن لما نعرفه أن يكون صادقًا أو نافذًا أو مشروعًا؟". ومن هنا، فإن إبستمولوجيا السياسة تمثل محاولة لتأصيل الطابع العلمي للسياسة، من خلال فحص جذورها الفلسفية، وآلياتها المفهومية، ومناهجها التحليلية، وتحيزاتها الثقافية.

لقد وُلد علم السياسة من رحم التداخل بين الفلسفة والتاريخ والحقوق، ثم استقل تدريجيًا بوصفه علمًا قائمًا على تحليل السلطة والدولة والسلوك السياسي. غير أن هذا الاستقلال لم يكن مصحوبًا بحسمٍ إبستمولوجي حول طبيعته العلمية. فهل السياسة علمٌ وصفيٌّ أم معياري؟ هل يمكن إخضاع الظواهر السياسية للمنهج التجريبي كما تفعل العلوم الطبيعية؟ أم أن الطابع المعقد للمجتمعات والتفاعلات السياسية يفرض تبني نماذج تفسيرية أكثر مرونة وتأويلاً؟ هذه الأسئلة تمثل جوهر الإشكالية الإبستمولوجية في علم السياسة.

من الناحية التاريخية، يمكن القول إن علم السياسة مر بتحولات إبستمولوجية كبرى. ففي الحقبة الكلاسيكية، كما في أعمال أفلاطون وأرسطو، كانت السياسة فرعًا من الأخلاق، وسعيًا نحو تحقيق الخير العام، مما منحها طابعًا معياريًا وأخلاقيًا واضحًا. أما في العصر الحديث، فقد أعادت الحداثة ترتيب العلاقة بين العلم والسياسة، عبر محاولة تأطير الأخيرة ضمن النموذج العلمي العقلاني كما عند توماس هوبز ونيكولو مكيافيلي، ثم عبر ماكس فيبر الذي أسّس لتمييز جذري بين "العلم" و"القيمة"، مُصرًّا على وجوب حياد الباحث السياسي عن معتقداته الخاصة.

أما في القرن العشرين، فقد شهد علم السياسة انقسامًا إبستمولوجيًا عميقًا. فمن جهة، نشأ ما يُعرف بـ"النزعة السلوكية" (behavioralism)، والتي حاولت تحويل علم السياسة إلى علم تجريبي دقيق، قائم على القياس الكمي، والنمذجة الإحصائية، ومحاولة اكتشاف أنماط متكررة في السلوك السياسي للأفراد والجماعات. ومن جهة أخرى، برزت تيارات نقدية رفضت اختزال السياسة في الأرقام والمعادلات، معتبرة أن الظواهر السياسية مشبعة بالرموز والثقافة والقيم والسلطة، وبالتالي فإن تفسيرها يحتاج إلى أدوات تأويلية وسياقية.

هنا ظهرت مدارس إبستمولوجية بديلة، مثل النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت)، والنظرية النسوية، والمقاربات ما بعد الحداثية، التي انتقدت جميعها الطابع الذكوري، الغربي، السلطوي، والاختزالي الذي اتسمت به المعرفة السياسية الغربية. لقد سعت هذه المقاربات إلى تفكيك البنية الإبستمولوجية للخطاب السياسي السائد، وكشفت كيف أن ما يُقدم كـ"علم محايد" ليس إلا بناءً أيديولوجيًا يخدم مصالح قوى معينة، ويساهم في إعادة إنتاج الهيمنة.

من الناحية المنهجية، يطرح سؤال الإبستمولوجيا تحديات هائلة على الباحث السياسي. فهل يختار المنهج الكمي بحثًا عن "الحياد" والدقة؟ أم ينحاز إلى المناهج الكيفية التي تسمح بالتغلغل في عمق المعاني والسياقات؟ وهل يمكن الجمع بينهما في إطار ما يُعرف بـ"المنهج التكاملي"؟ بل وأكثر من ذلك، هل يستطيع الباحث أن يظل خارج التجاذبات السياسية وهو يدرسها، أم أن كل معرفة سياسية مشروطة سياسيًا وأيديولوجيًا؟ هذه الأسئلة لا تنتمي إلى هامش علم السياسة، بل هي قلبه النابض، لأنها تحدد طبيعة الموضوع وشرعية المقاربة وحدود الادعاء العلمي.

على هذا الأساس، فإن إبستمولوجيا علم السياسة ليست مجرد نقاش فلسفي، بل هي شرط تأسيسي لأي محاولة لفهم السياسة بصورة نقدية وواعية. إنها دعوة إلى مساءلة ما نأخذه كمسلمات، وإعادة صياغة العلاقة بين الفاعل والمفعول به، بين الباحث والواقع، بين المفهوم والتجربة. فالعلم السياسي، كما يقول بيير بورديو، لا يولد في فراغ، بل هو جزء من حقل صراع رمزي، تهيمن عليه قوى متضاربة تسعى لاحتكار تعريف ما هو "سياسي".

في ضوء هذا، ينبغي أن تتحول الإبستمولوجيا في علم السياسة من كونها نشاطًا نخبويا إلى أداة تحرر معرفي، تعيد التفكير في الأسس التي يُبنى عليها الفهم السياسي، وفي المعايير التي تُنتج من خلالها السياسات، وفي المآلات التي تقود إليها المعارف السياسية. إنها باختصار، وعيٌ نقديٌ بالمعرفة ذاتها، وبما يُفترض أنه "علم"، حين يكون هذا العلم أداةً للهيمنة أكثر منه أداةً للفهم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...


المزيد.....




- البنتاغون يدرس نقل غرينلاند إلى القيادة الشمالية الأمريكية.. ...
- -سي إن إن-: إجراء أول اتصال هاتفي بين الهند وباكستان منذ اند ...
- -جيروساليم بوست-: ترامب قد يعترف بدولة فلسطين خلال قمة السعو ...
- هل يجعلنا الذكاء الاصطناعي -أكثر غباء-؟
- جدل مُتصاعد.. أزمة الإيجار القديم في مصر تُهدد بفوضى عقارية ...
- لماذا يجتاح -جنون البروتين- عالم التغذية في 2025؟
- العلماء يكتشفون طفرة جينية قد تفسر سبب تفاوت ساعات النوم
- ابنة ماسك العابرة جنسيا تخطف الأنظار خلال حدث بارز (فيديو)
- كوريا الشمالية مستعدة لدعم روسيا إن تعرضت لعدوان غربي
- الصين تدعو الهند وباكستان للتهدئة وضبط النفس


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة