انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق الرقمي

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8326 - 2025 / 4 / 28 - 11:08
المحور: تقنية المعلمومات و الكومبيوتر
    

د.حمدي سيد محمد محمود
شهدت طبيعة المعرفة تحولًا جذريًا مع بزوغ عصر المعلومات. ففي العصور السابقة، كانت المعرفة تُنظر إليها بوصفها عملية تراكمية بطيئة، تتطلب جهداً فرديًا أو جماعيًا مضنيًا للوصول إلى المعلومة، والتحقق من صحتها، وبنائها في نسق معرفي متماسك. أما اليوم، فقد أصبحت المعلومة متاحة بضغطة زر، مما أدى إلى نوع من "التسطيح" في علاقتنا بالمعرفة. لم تعد المعرفة ترتبط بالضرورة بالبحث المتأني أو بالتأمل النقدي، بل غدت مشروطة بآليات التدفق السريع للمعلومات، والانجراف وراء الكم الهائل من البيانات، دون تمييز دقيق بين المعلومة والمعرفة، وبين الرأي والحقيقة، وبين التفسير العلمي والسرد الإعلامي. وهكذا، تغيرت طبيعة المعرفة من كونها بناءً نقديًا تراكميًا إلى كونها استهلاكًا سريعًا متقطعًا لمضامين جاهزة، في كثير من الأحيان لا تتيح مساحة كافية للفحص النقدي أو الفهم العميق.

في هذا الإطار الجديد، أصبحت المعرفة خاضعة لتحولات هيكلية تمس جوهرها ذاته. فمن جهة، برزت ظاهرة "التخصص المفرط"، حيث غدت المعارف أكثر تقسيماً وتجزيئًا، مما جعل من الصعب تكوين رؤية شاملة للعالم. ومن جهة أخرى، أدى تدفق المعلومات الهائل إلى بروز ظاهرة "الضجيج المعرفي" (Cognitive Noise)، إذ لم تعد المشكلة في الوصول إلى المعلومة، بل في فرزها، وتقويمها، وربطها بسياقاتها الصحيحة. هذا الوضع أفرز تحديًا إبستيمولوجيًا يتمثل في ضرورة تطوير أدوات جديدة لفهم طبيعة المعرفة، وتصنيف أنواعها، والتعامل مع الكم الهائل من المعطيات بطريقة منهجية تضمن المحافظة على المعنى والدقة.

واحدة من أبرز التحديات التي تواجه نظرية المعرفة اليوم تتمثل في أزمة الثقة بالمصادر. مع تزايد المحتوى الرقمي وسهولة إنتاجه وتداوله، أصبحت مسألة التحقق من المعلومة مسألة إشكالية في حد ذاتها. فالمعرفة لم تعد تُنتج حصريًا في مؤسسات علمية رصينة، بل صارت تصنع أيضًا في الفضاءات الافتراضية حيث تتداخل الحقيقة مع الخيال، والعلم مع الإيديولوجيا، والمعرفة مع الدعاية. هذا يستدعي من نظرية المعرفة إعادة التفكير في مفهوم "السلطة المعرفية"، وفي آليات التوثيق والتحقق التي كانت تقليديًا تعتبر ركائز للمعرفة الموثوقة.

ومن التحديات الكبرى أيضًا، ظهور ما يسمى بـ"المعرفة الخوارزمية". فاليوم، تقوم محركات البحث والمنصات الرقمية باستخدام خوارزميات معقدة لاختيار المعلومات التي يتعرض لها الأفراد، بناءً على بياناتهم الشخصية وسلوكياتهم السابقة. هذا أدى إلى إنشاء فقاعات معرفية مغلقة (Echo Chambers) تُعزز القناعات المسبقة بدلاً من توسيع الآفاق النقدية. وهكذا، أصبحت المعرفة موجهة بطريقة خفية، مما يطرح أسئلة عميقة حول مدى استقلالية الباحث المعاصر، وحول مدى حرية العقل أمام التدخلات التكنولوجية غير المرئية.

ولا يمكن تجاهل أيضًا تحدي "التفكيك لما بعد الحداثة"، حيث أصبح يُنظر إلى الحقيقة ذاتها بوصفها بناءً لغويًا نسبيًا، لا يمكن الوصول إليه بصورة مطلقة. هذا الطرح، الذي ازدهر في الفلسفة والنقد الثقافي، زعزع الثقة في إمكانية تأسيس معرفة موضوعية مستقلة عن الأطر الاجتماعية والثقافية. في عصر المعلومات، وجد هذا التفكيك أرضًا خصبة، إذ أصبح تداول "الحقائق البديلة" و"المعلومات المضللة" ظواهر طبيعية، مما يفرض على نظرية المعرفة أن تتعامل مع واقع معرفي أكثر تشظيًا وتعقيدًا من أي وقت مضى.

وفي ضوء هذه التحولات، بات من الضروري إعادة تعريف مفهوم "المعرفة الحقيقية". لم يعد كافيًا الاعتماد على مقاييس التقليدية للصدق أو التوافق مع الواقع؛ بل أصبح ضروريًا تطوير معايير جديدة تأخذ بعين الاعتبار ديناميكية المعلومات وسرعة انتشارها، وتراعي الأثر الاجتماعي والسياسي لتداولها. من هنا تبرز الحاجة إلى إرساء نظرية معرفية جديدة تكون قادرة على استيعاب الأبعاد التكنولوجية، والنفسية، والسياسية للمعرفة في العصر الرقمي.

في النهاية، يمكن القول إن عصر المعلومات، رغم ما أتاحه من فرص هائلة للوصول إلى المعارف المختلفة، قد فرض على الفكر الإبستيمولوجي مهامًا جديدة ومعقدة: مهمة التمييز بين المعلومة والمعرفة، ومهمة مقاومة تسليع الفكر واختزاله إلى مجرد تدفق بيانات، ومهمة الدفاع عن حق الإنسان في الفهم العميق والتحقق النقدي وسط طوفان من الأصوات والصور والمعطيات. إنها معركة جديدة حول المعنى ذاته للمعرفة، وحول مصير العقل النقدي في عالم يتسارع نحو مزيد من الغموض المعلوماتي والانفجار المعرفي.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل