أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية الروحية














المزيد.....

ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية الروحية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 08:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يشير مفهوم "ما بعد العلمانية" إلى لحظة تاريخية وفكرية تتجاوز الفرضيات الأساسية التي قامت عليها الحداثة الغربية والعلمانية الكلاسيكية، وتعيد النظر في موقع الدين في المجال العام بعد قرون من التهميش أو الإقصاء. لا يعني المصطلح عودةً إلى الدين بمعناه التقليدي، بل يشير إلى إعادة تشكيل العلاقة بين العقل والإيمان، والديني والعلماني، في ظل أوضاع جديدة تتسم بتعدد الهويات الثقافية والروحية، وتراجع أوهام "نهاية الدين" التي بشر بها عصر التنوير. يتبلور المفهوم بوصفه استجابة فلسفية وسوسيولوجية لتحولات ما بعد الحداثة، والوعي المتزايد بحدود المشروع التنويري، ولا سيما في تعامله مع الدين كظاهرة خاصة، قابلة للإزاحة من المجال العام إلى المجال الخاص.

في السياق الفلسفي الأوروبي، يرتبط تأصيل مفهوم ما بعد العلمانية بنقد المسلمات الحداثية التي بشّر بها فلاسفة التنوير مثل كانط وفولتير وهيوم، والذين سعوا إلى إحلال العقل محل الوحي، والفرد محل الجماعة، والعلم محل الإيمان. غير أن هذا المشروع التنويري لم يؤدِ إلى تحييد الدين بشكل كامل كما كان متوقعًا، بل ظهرت مقاومات وتجليات جديدة للديني في الفضاءات العامة والسياسية. هذه العودة لم تكن مجرد ظاهرة شعبوية، بل أصبحت أيضًا موضع مساءلة فلسفية عميقة، خاصة مع فلاسفة مثل يورغن هابرماس، وتشارلز تايلور، وجان-لوك مارسيون، الذين سعوا إلى بناء نماذج فكرية تتجاوز الثنائية الصلبة بين الدين والعلمانية.

يورغن هابرماس، على سبيل المثال، يُعد من أبرز المفكرين الذين بلوروا فكرة ما بعد العلمانية من خلال أطروحته عن "الوعي ما بعد العلماني"، حيث أقرّ في مرحلة متأخرة من مشروعه النقدي بأن العقلانية الحديثة، رغم أهميتها، عاجزة عن توفير أسس أخلاقية كونية دون الانفتاح على الإمكانات الروحية للدين. في كتاباته الأخيرة، دعا هابرماس إلى "حوار عقلاني بين المعتقدات الدينية والعلمانية"، مشيرًا إلى أن المجتمعات الديمقراطية تحتاج إلى دمج المصادر الأخلاقية والتأويلية التي يوفرها الدين، بدلًا من تهميشه أو نفيه.

أما تشارلز تايلور، فقد ذهب أبعد من ذلك في تأريخه للحداثة، مؤكدًا أن التنوير لم يُقصِ الدين بل أعاد تشكيله داخل أطر جديدة من "الفردانية المعنوية"، وأن العلمانية ليست نهاية للدين بل شكل جديد من تنظيم الوجود الديني داخل مجتمع تعددي. في عمله الموسوعي عصر العلماني (A Secular Age)، يؤسس تايلور لفهم تعددي للعلمانية، يُفسح المجال لبروز تجارب إيمانية جديدة تتعايش مع الحداثة، بل وتنتقدها من داخلها.

وفي المقابل، تأتي مساهمات الفلسفة القارية، وخاصة تيار ما بعد البنيوية، لتفضح ادعاءات الحياد والتقدم المرتبطة بالعلمانية الحديثة. فالفلاسفة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا أشاروا إلى أن العلمانية لم تكن مشروعًا عقلانيًا صرفًا، بل كانت جزءًا من خطاب السلطة والمعرفة، وأنها أعادت إنتاج نماذج للهيمنة بوسائل غير لاهوتية. وفي ضوء ذلك، يصبح ما بعد العلمانية نوعًا من "التفكيك" المستمر للعقلانية الغربية التي تجاهلت العمق الوجودي للدين، وسعت إلى ترويضه داخل قوالب وظيفية.

ما بعد العلمانية إذًا ليست مجرد لحظة ارتداد ديني، بل تعبير عن وعي فلسفي جديد بأهمية تجاوز الانقسامات المصطنعة بين الإيمان والعقل، بين الفرد والمجتمع، بين الوجود المادي والرمزي. إنّها لحظة إعادة تفعيل للبعد الروحي والأخلاقي للإنسان داخل عالم تقني، مفكك، ومعولم، لا يعود فيه الدين عنصرًا هامشيًا، بل حاملًا لإمكانات نقدية ومجتمعية، تعيد طرح السؤال الأهم: كيف نحيا معًا رغم اختلاف معتقداتنا ومواقفنا الوجودية؟



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...


المزيد.....




- -لا نقبل محاضرات من نظام يعمل على أسس هندوتفا-.. سفير باكستا ...
- لحظات حفرت صورها في التاريخ بحفل -ميت غالا- الأبرز في عالم ا ...
- بعد الحرب في تيغراي: جرحى بلا علاج وأسر بلا طعام
- ما دلالات إعلان ترامب التوصل إلى اتفاق مع الحوثيين؟
- الخارجية الباكستانية: -سلوك الهند غير المسؤول- يضع دولتين نو ...
- وزير الدفاع الهندي يلتقي رئيس الأركان وقادة الجيش إثر فشل ال ...
- غضب في كاراتشي تنديدا بالغارات التي شنتها الهند على باكستان ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مهاجمة 60 هدفا في غزة (صور + فيديو)
- رد فعل السيسي لحظة مرور تشكيل الشرطة العسكرية المصرية خلال ا ...
- تركيا تعلن موعد بدء إمدادات الغاز إلى سوريا بواقع ملياري متر ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية الروحية