أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل














المزيد.....

فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 00:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تشكل فلسفة هنري برجسون (1859-1941) محاولة عميقة لتجاوز الجمود العقلي الذي فرضه التفكير الميكانيكي على فهم الإنسان والوجود. لقد أراد برجسون أن يُعيد إلى الفلسفة دفء الحياة ودفقة الحدس، في مقابل تحجُّر الفكر الوضعي والمقولات المجردة التي سادت في القرن التاسع عشر. ولعل أحد أعظم إسهاماته الفلسفية يتمثل في إعادة تعريف الزمن لا بوصفه كمًّا هندسيًّا يُقاس، بل كـ**"مدّة" (la durée)** تُعاش داخليًا، وتتميز بالتدفق، والسيولة، والانسياب المستمر الذي لا يمكن اختزاله إلى لحظات منفصلة. هذه الفكرة، رغم بساطتها الظاهرية، كانت ثورية بكل المقاييس، إذ قلبت مفاهيم الزمان والمكان والعقل والواقع رأسًا على عقب، وساهمت في إعادة تشكيل نظرتنا إلى الحرية، والإبداع، والتجربة الذاتية.

لقد هاجم برجسون بشدة النزعة العقلانية الصلبة التي حاولت أن تُخضع الحياة لنماذج ثابتة ومنطقية. بالنسبة له، لا يمكن للحياة أن تُفهَم من خلال آليات التحليل العقلي وحدها، لأن جوهرها ليس ثابتا بل متغيرًا، نابضًا، متطورًا. لذلك، أدخل برجسون الحدس (intuition) كأداة فلسفية أساسية؛ وهي ليست ضربًا من التخمين الغامض، بل طريقة لفهم الواقع عبر المعايشة المباشرة والانغماس في الشيء ذاته، بدلاً من الإحاطة به خارجيًا. والحدس، وفقًا لبرجسون، يفتح أمامنا أبوابًا لفهم الحقيقة بطرق لا تستطيعها المناهج التحليلية الصارمة، لأنه يتصل بالحياة من داخلها، وليس من خارجها.

في قلب فلسفته، تبرز نظرية "الدفع الحيوي" (élan vital)، وهي تصور ميتافيزيقي للحياة باعتبارها حركة خَلْقية مستمرة، لا تسير وفق خطة مرسومة، بل تنفتح باستمرار على احتمالات جديدة. هذه الرؤية تعكس تأثر برجسون بالنظرية الداروينية، لكنها تتجاوزها، إذ يرى أن التطور ليس فقط نتاج صراع أو انتقاء طبيعي، بل اندفاع خلاق للحياة نحو التجاوز والتعقيد والتنوع. الحياة، بهذا المعنى، ليست تكرارًا للأنماط، بل مغامرة وجودية لا تُختزل في قوانين فيزيائية أو بيولوجية. وهذا الفهم يمنح الإنسان حرية جوهرية، باعتباره كائنًا منخرطًا في صيرورة مفتوحة لا تُحدها الحتميات ولا تُقيدها الآليات.

من جهة أخرى، لم تكن فلسفة برجسون مجرد تأملات ميتافيزيقية مجردة، بل حملت طابعًا روحيًا عميقًا، انعكس بوضوح في كتابه "الطاقة الروحية"، حيث دافع عن فكرة أن العقل وحده عاجز عن إدراك ما وراء الطبيعة، وأن هناك في أعماق الإنسان نزعة دينية أصيلة، ليست تلك التي تُفرض من الخارج أو تُبنى على العقائد الجامدة، بل تلك التي تنبع من التجربة الداخلية المباشرة للحياة، والتي ترتبط بـ"الدين الديناميكي"، أي الدين الذي يُحرك الإنسان نحو الإبداع، والمحبة، والانفتاح على اللامتناهي.

وقد أثرت فلسفة برجسون في العديد من المفكرين، من أمثال وايتْهَد، وميرلوبونتي، وجيل دولوز، الذين رأوا في رؤيته للزمن، والحرية، والحياة، دعوة للخروج من إسار التفكير التقني والوضعي، والدخول إلى أفق فلسفي يحتضن التعقيد، والتعدد، والاختلاف. كما ألهمت فلسفته العديد من الفنانين والأدباء، لما فيها من احتفاء بالزمن الداخلي، والتجربة الجمالية، ورفض المقولات الجامدة.

برجسون، بهذا المعنى، هو فيلسوف الحياة، لا لأنها موضوع تأمله فقط، بل لأنه جعل الفلسفة ذاتها كائنًا حيًا، نابضًا، متغيرًا، يقاوم الاختزال ويبحث عن الجوهر خلف ستار المألوف. ومن هنا تبقى فلسفته ذات راهنية ملحة في زمننا المعاصر، حيث تحاصر الإنسان آلات التكرار والأنظمة المغلقة، وتُغرقه مفاهيم السرعة والكمّ والمعالجة العقلية الباردة. إن فكر برجسون يذكّرنا بأن الحياة ليست شيئًا يُمتلك أو يُقاس، بل هي تجربة تُعاش، وزمن يتدفق، وإبداع يتجاوز كل الحسابات.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا


المزيد.....




- تسجيل صوتي يكشف تفاصيل مرعبة عن فقدان برج مراقبة بمطار أمريك ...
- لابوبو..كيف تحوّلت دمية صينية إلى ظاهرة موضة عالمية؟
- روسيا تؤكد التزامها بالهدنة لمدة 3 أيام لكنها -ترد- على الهج ...
- إسرائيل تستهدف جنوب لبنان بسلسة غارات جوية رغم سريان اتفاق و ...
- حجاج بريطانيون يبحرون من لندن إلى مكة من أجل الأيتام
- باكستان تُسقط -مسيّرات- أطلقتها نيودلهي، والهند تعلن -تحييد- ...
- إختراق واتساب - ميتا تكسب القضية ضد شركة -إن إس أو- لبرامج ا ...
- الدفاع الروسية: جميع قواتنا بمنطقة العملية العسكرية التزمت ب ...
- احتجاز 44 شخصا في باريس خلال أعمال شغب أثناء مباراة -باريس س ...
- لجنة التحقيق الروسية تنشر تقريرا حول أدائها في كشف وتوثيق جر ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل