انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العربي الراهن

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 12:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

د.حمدي سيد محمد محمود
في قلب التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها المجتمعات العربية خلال القرنين الماضيين، يتجلى صراعٌ عميق بين منظومتين قيميتين: الأولى دينية ذات جذور روحية وتاريخية عريقة ترتكز إلى الشريعة، والنصوص المقدسة، والموروث الفقهي، والثانية علمانية ذات طابع عقلاني وحداثي تستمد قوتها من المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، والفصل بين الدين والسياسة، والعقلنة المؤسسية للمجال العام. هذا الصراع لم يكن مجرد اختلاف في المرجعيات أو تباين في الرؤى، بل تحول في كثير من الأحيان إلى معركة وجودية تمس هوية الفرد، وتوجهات الدولة، وملامح الثقافة الجمعية.

لقد ولدت القيم العلمانية في الفضاء الأوروبي كرد فعل تاريخي على تسلط الكنيسة واحتكارها للمعنى والحقيقة، فجاءت لتفصل الدين عن الدولة، وتؤسس لمجتمع مدني محكوم بقواعد وضعية. غير أن استيراد هذه المنظومة إلى السياق العربي تم غالبًا بطريقة قسرية وغير عضوية، عبر الاستعمار المباشر أو النخب المتغربة، دون المرور بذات المسار التاريخي الذي أنتج العلمانية في أوروبا. ونتيجة لذلك، وقعت المجتمعات العربية في فجوة قيمية عميقة، حيث بدت العلمانية مشروعًا نخبويًا منفصلًا عن العمق الشعبي، في حين احتفظت القيم الدينية بجاذبيتها الجمعية، خاصة في ظل فشل النظم السياسية الحداثية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية السياسية.

وقد اتخذ هذا الصراع في العقود الأخيرة صورًا متعددة، من صدام مباشر في الخطاب العام والمؤسسات السياسية والتعليمية، إلى توترات خفية تعبر عن نفسها في الازدواجية الثقافية والانقسام المجتمعي. ففي بعض الدول، يُروّج للفصل التام بين الدين والسياسة، بينما تُستدعى الرموز الدينية في ذات الوقت لتبرير قرارات سياسية أو ضبط المجال العام، ما يعكس ارتباكًا في تحديد موقع الدين في الحياة العامة. وفي المقابل، سعت التيارات الدينية إلى استعادة مكانتها في المجال السياسي من خلال خطاب مقاوم، غالبًا ما وُصم بالتطرف أو الرجعية، مما أدى إلى إعادة إنتاج ثنائية الدين/العلمانية كصراع محتوم، بدلًا من فتح أفق التفاعل الخلاق بينهما.

إن الأثر الأعمق لهذا الصراع يتجلى في تمزق الهوية الثقافية للمجتمعات العربية. فبينما يتطلع الشباب إلى الحداثة، والحرية، والانفتاح على العالم، يشعر الكثير منهم بفراغ وجودي ناتج عن تهميش البعد الروحي والقيمي في الحياة المعاصرة. وفي الوقت نفسه، يجد آخرون في المرجعيات الدينية ملاذًا نفسيًا وهوياتيًا، لكنهم غالبًا ما يصطدمون بإكراهات العصر وأدواته التقنية والمؤسسية التي تتطلب عقلانية إجرائية لا توفرها الخطابات الدينية التقليدية. وهكذا، تتولد لدى الأفراد حالة من الازدواجية الداخلية، حيث يعيش الكثير منهم في انفصام بين الاعتقاد والسلوك، بين المرجعيات والواقع، بين ما يُقال في المساجد والمدارس، وما يُمارس في العمل والسوق والإعلام.

وفي العمق، فإن استمرار هذا الصراع دون إدارة معرفية ونقدية رشيدة يعوق إمكانات التقدم الاجتماعي والسياسي. فبدلًا من أن تتحول القيم إلى موارد للتمكين والتكامل، تصبح أدوات للاستقطاب والانقسام. ومن دون مراجعة نقدية لكلا المنظومتين – الدينية والعلمانية – تظل المجتمعات العربية رهينة لنمط متكرر من التنازع على السلطة الرمزية، بدلًا من إنتاج مشروع نهضوي يعيد تعريف العلاقة بين الدين والعقل، بين المقدس والمدني، بين الأصالة والتحديث.

إن تجاوز هذا المأزق لا يتطلب الانحياز الأحادي لأي من القطبين، بل يستدعي بلورة نموذج معرفي وأخلاقي جديد، يقر بدور الدين كرافعة قيمية وهووية حضارية، دون أن يسمح له بالهيمنة على المجال العام أو تقييد الحريات، ويعترف في الوقت ذاته بحاجة المجتمعات إلى قيم عقلانية ومؤسسية وعالمية، دون أن تنكر خصوصياتها الثقافية والدينية. وحده هذا التوازن الخلاق، القائم على النقد والتجديد لا على الإلغاء والإقصاء، قادر على فتح أفق جديد أمام المجتمعات العربية التي تعيش تحت وطأة هذا الصراع القيمي العميق.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل