أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي














المزيد.....

إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 02:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يمثل بناء نموذج معرفي عربي مستقل تحديًا عميق الجذور ومتعدد الأوجه، يتجاوز مجرد نقص الأدوات المنهجية ليلامس صميم الأطر المرجعية التي تشكل رؤيتنا للعالم وأنماط تفكيرنا. فالإشكالية المركزية تكمن في هذا التداخل المعقد بين إرث استعماري ترك بصماته على مناهجنا وأساليب بحثنا، وبين نزعة محافظة قد تدفع نحو استنساخ التراث دون مساءلة نقدية أو محاولة لتجاوزه في سياقاتنا المعاصرة. هذه الثنائية، بين التبعية والتكرار، تُنتج حالة من الشلل الفكري، حيث تغيب الأصالة والقدرة على إنتاج مفاهيم وأدوات تحليلية نابعة من واقعنا الخاص وقادرة على استيعاب تعقيداته.
يزداد هذا المأزق تعقيدًا مع تلك الفجوة المتسعة بين إنتاج المعرفة في العلوم الإنسانية وبين الواقع المعيش بكل تحولاته وتحدياته. لقد تحولت أجزاء واسعة من البحث الأكاديمي إلى ممارسة نظرية مجردة، تهتم بالتنظير لذاته أو بتطبيق نماذج مستوردة بشكل غير نقدي، مما أدى إلى انفصالها عن القضايا الحقيقية التي تواجه مجتمعاتنا وتعيق تقدمها. هذا الانفصال يترتب عليه تهميش دور المثقف العربي في الحياة العامة، وتحويل المؤسسة الأكاديمية إلى جزر منعزلة عن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشكل واقعنا. وبالتالي، تفقد المعرفة المنتجة قدرتها على التأثير والتغيير، وتصبح مجرد ترف نظري لا يلامس حياة الناس وتطلعاتهم.
ومع ذلك، فإن هذه الصورة القاتمة لا تعني استسلامًا محتومًا. فإمكانية بناء نموذج معرفي عربي مستقل تظل قائمة، لكنها مشروطة بتوفر إرادة نقدية حقيقية وشاملة. هذه الإرادة يجب أن تتجلى في مراجعة جذرية للمفاهيم والأطر النظرية السائدة، وتفكيك الأسس التي تقوم عليها التبعية الفكرية. إنها تتطلب شجاعة في مساءلة المسلمات، وتجاوز التلقين، والانطلاق نحو تفكير أصيل ينبع من فهم عميق لتاريخنا وخصوصيتنا الثقافية، ولكنه في الوقت نفسه منفتح على كل ما هو جديد ومفيد في التجارب الإنسانية الأخرى.
إن إعادة صلة الفكر بالواقع المعيش تمثل شرطًا أساسيًا لنجاح هذا المشروع. يجب أن تنخرط العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل فعال في دراسة وفهم التحديات التي تواجه مجتمعاتنا، وأن تسعى لتقديم حلول عملية ومبتكرة لهذه التحديات. هذا يتطلب تحولًا في طبيعة البحث الأكاديمي، من التركيز على التنظير المجرد إلى الانخراط في دراسات ميدانية معمقة، وإقامة شراكات حقيقية مع المؤسسات المجتمعية المختلفة، والاستماع إلى أصوات الفاعلين على أرض الواقع.
كما أن الدمج الخلاق بين الإرث الثقافي والحداثة يمثل ركيزة أساسية في بناء هذا النموذج المعرفي المستقل. لا يعني ذلك الانكفاء على الماضي أو رفض كل ما هو حديث، بل يعني فهم تراثنا بعمق ونقد، واستخلاص العناصر القادرة على إثراء حاضرنا ومستقبلنا، ثم التفاعل مع الحداثة بشكل انتقائي ومبدع، بحيث نستوعب منجزاتها ونكيفها لتناسب سياقاتنا وقيمنا. إنها عملية توليف حضاري تهدف إلى بناء هوية معرفية عربية أصيلة ومتجددة في آن معًا.
إن تأسيس هذا النموذج المعرفي ليس مجرد أمنية أو شعارًا، بل هو مشروع يتطلب عملًا مؤسساتيًا دؤوبًا وصبرًا استراتيجيًا. يحتاج إلى بناء مؤسسات بحثية قوية ومستقلة، ودعم الباحثين والمفكرين، وتشجيع الحوار والنقد البناء، وتوفير البيئة المناسبة لإنتاج ونشر المعرفة الأصيلة. كما يتطلب تفاعلًا جدليًا وحقيقيًا بين المثقف والدولة والمجتمع، حيث يضطلع كل طرف بمسؤولياته في دعم البحث العلمي وتشجيع التفكير النقدي وتوظيف المعرفة في خدمة التنمية والتقدم.
فقط من خلال هذا التأسيس الصبور، والبناء المؤسساتي المتين، والتفاعل الحيوي بين مختلف الفاعلين، يمكن أن نأمل في ولادة حداثة عربية حقيقية، حداثة لا تستنسخ نماذج الآخرين بشكل سطحي، ولا تنغلق على الذات في عزلة تاريخية، بل تؤسس لوجود معرفي عربي متجذر في تربته الثقافية، ومنفتح على آفاق المستقبل بكل ما يحمله من تحديات وفرص. إنها حداثة قادرة على الإسهام بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية، وتقديم رؤى ومفاهيم جديدة تثري النقاش العالمي وتساهم في حل المشكلات المشتركة التي تواجه عالمنا المعاصر.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...


المزيد.....




- تقرير: أمريكا اعترضت اتصالات لمسؤولين إيرانيين كشفت تقييمهم ...
- ماكرون يؤكد في مكالمة مع الرئيس الإيراني على ضرورة العودة إل ...
- إيران تنفي تهديد الوكالة الذرية وتشكك في مصداقية ترامب بشأن ...
- تصاعد هجمات المستوطنين بالضفة وجيش الاحتلال يعتقل العشرات
- -إثبات الوفاة- معاناة قانونية وإنسانية تؤرّق ذوي الشهداء وال ...
- الزرشك نكهة لاذعة وفوائد مذهلة.. كنز أحمر في مطبخك
- شيرين في مهرجان -موازين-.. تفاعل وانتقادات ودعم
- حكم بالسجن النافذ في حق صحافي فرنسي في الجزائر بتهمة تمجيد ا ...
- الجزائر: الحكم على صحافي رياضي فرنسي بسبع سنوات سجن بتهمة تم ...
- غروسي: إيران قد تستأنف تخصيب اليورانيوم -في غضون أشهر-


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي