أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - حمدي سيد محمد محمود - أزمة العلم المتصدع: من اليقين التجريبي إلى سيولة المعرفة















المزيد.....

أزمة العلم المتصدع: من اليقين التجريبي إلى سيولة المعرفة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8359 - 2025 / 5 / 31 - 00:33
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


د.حمدي سيد محمد محمود
شكّل البحث العلمي على مر العصور الحاضنة الأساسية لتطور المعرفة البشرية، وقد تبلورت عبر الزمن مذاهب كبرى شكّلت أُطرًا نظرية وفلسفية لقيادة المسار العلمي، كل منها يحمل تصورًا خاصًا عن الحقيقة، والواقع، ومنهج الوصول إلى المعرفة. إن فهم هذه المذاهب لا يقتصر على تحليلها من زاوية إبستمولوجية، بل يتطلب أيضًا إدراكًا لسياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، وتأثيرها المتبادل مع روح العصر.

أول هذه المذاهب هو المذهب التجريبي (Empiricism)، الذي ساد منذ عصر النهضة وحتى العصر الحديث، ويقوم على أن التجربة الحسية هي المصدر الأساسي للمعرفة. اعتنق هذا المذهب فلاسفة وعلماء أمثال فرانسيس بيكون وجون لوك وديفيد هيوم، حيث مثّل رفضًا صريحًا للتقاليد الميتافيزيقية وتأكيدًا على الملاحظة والاختبار والتجريب كأسس للمعرفة. في قلب هذا المذهب يكمن الإيمان بأن العالم الخارجي يمكن فهمه عبر أدوات المنهج العلمي المعياري، وأن الحقيقة يمكن إثباتها موضوعيًا. إلا أن هذا التيار، رغم إنجازاته، وُجه بانتقادات لاحقة تتعلّق بإغفاله لدور البنية الاجتماعية والثقافية في تشكيل المعرفة، وبتغييبه للعامل الذاتي واللغة والسلطة.

وفي المقابل، برز المذهب العقلاني (Rationalism) كمقاربة موازية ترى أن العقل وحده، بما يتضمنه من مبادئ قبلية ومنطق داخلي، هو الأداة الأعلى للوصول إلى الحقيقة. يُجسّد هذا التيار أعمال ديكارت وسبينوزا وليبنتز، الذين سعوا إلى تأسيس العلم على يقين لا يتزعزع. لم يكن هذا الاتجاه مجرد دعوة إلى التفكر المجرد، بل انطوى على تصور متكامل للكون بوصفه منتظمًا ومنسجمًا، يمكن للعقل أن يستبطن قوانينه. ومع ذلك، فإن الاستغراق في العقلنة قاد في بعض الأحيان إلى بناء أنظمة معرفية منغلقة وغير قابلة للتجريب.

ثم جاء الوضعانيون (Positivists) في القرن التاسع عشر ليطرحوا رؤية جديدة للعلم، حيث سعى أوغست كونت إلى تجاوز النزاعات الفلسفية بإقامة العلم على ركيزة من الملاحظة المنظمة والقوانين الموضوعية. الوضعانية اعتبرت أن المعرفة العلمية وحدها تستحق الاعتبار، وكل ما لا يمكن قياسه أو اختباره يجب إقصاؤه. وقد أسهم هذا الاتجاه في تدعيم النزعة العلمية وتوسيع مجالات التخصصات، لكنه تعرض لنقد حاد من قبل التيارات الفلسفية اللاحقة، كالمذهب النقدي والمذهب التفسيري، إذ اعتُبر أنه يبسط الظواهر الاجتماعية والإنسانية ويحصرها في نماذج ميكانيكية.

برز كذلك المذهب التفسيري (Interpretivism) كرد فعل على النزعة الوضعانية، خصوصًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث ركّز على فهم المعاني والسياقات والتجارب الذاتية. قاد هذا المذهب مفكرون مثل ماكس فيبر وويلهلم دلتاي، الذين رفضوا فكرة تطبيق المنهج العلمي الطبيعي على الإنسان، مؤكدين أن الواقع الاجتماعي متغير ومتعدد الدلالات، وأن فهمه يتطلب الغوص في بنيته الرمزية والثقافية. لقد سمح هذا الاتجاه بكشف البعد العميق للمعرفة الإنسانية، لكنه عانى في بعض أطروحاته من النسبية المفرطة وغياب إمكانيات التعميم.

في القرن العشرين، ظهرت مدرسة فرانكفورت والمذهب النقدي (Critical Theory) كمحاولة لتفكيك العلاقة بين العلم والسلطة، وكشف الآليات الخفية التي تُمأسس الهيمنة من خلال المعرفة العلمية. رأى مفكرو هذه المدرسة – ومنهم هوركهايمر وأدورنو وماركوز – أن العلم ليس بريئًا أو محايدًا، بل يمكن أن يكون أداة للضبط الاجتماعي وخدمة المصالح الرأسمالية. دعا هذا التيار إلى توسيع مفهوم العقل ليشمل النقد والتحرر، مؤكدًا ضرورة ربط العلم بالسياق الأخلاقي والسياسي. ومع أن هذه الرؤية أعادت الاعتبار للذات والقيم في العلم، فإنها في كثير من الأحيان لم تقدم بديلاً منهجيًا صارمًا.

أما فلسفة العلم المعاصرة، فتجلّت في أعمال كارل بوبر، توماس كون، بول فيرابند، وإيمري لاكاتوش، الذين أدخلوا مفاهيم جديدة مثل التكذيبية، والنماذج الإرشادية، والتعدد المنهجي. لم يعد العلم يُرى كعملية خطية تراكمية، بل كصيرورة متقطعة، تتخللها ثورات معرفية، وصراعات بين أنساق فكرية متباينة. وقد بيّن هؤلاء المفكرون أن العلم لا يسير دائمًا وفق منطق عقلاني صافٍ، بل تحكمه عوامل ثقافية، تاريخية، ونفسية، مما جعل صورة العلم أكثر تعقيدًا وتنوعًا.

آفاق المستقبل: ما بعد العلم التقليدي

في ضوء التحولات المعاصرة، يقف البحث العلمي اليوم أمام منعطف وجودي غير مسبوق، حيث تفرض الثورة الرقمية، والتطورات في الذكاء الاصطناعي، والتداخل العميق بين التخصصات، إعادة تفكير جذرية في طبيعة المعرفة العلمية ومناهجها. فالعلم لم يعد مقصورًا على المختبر، بل بات موزعًا بين الحاسوب، والخوارزمية، والفضاء السيبراني. ولم تعد الحقيقة تُبنى فقط على التجربة أو المنطق، بل أيضًا على تحليل البيانات الكبرى، والتعلم الآلي، والنمذجة الرياضية.

إن المذاهب التقليدية باتت عاجزة عن الإحاطة بكل هذا التعقيد، مما يستدعي ظهور مذهب معرفي جديد عابر للتخصصات (Transdisciplinary Epistemology)، ينفتح على الفلسفة، والفن، والبيئة، والذكاء الجمعي. سيعتمد هذا المذهب على مقاربة شمولية تتجاوز ثنائية الذات/الموضوع، وتُراعي تشابك الإنسان مع التكنولوجيا، والبيئة، والثقافة، والسلطة. وهو مذهب سيأخذ بعين الاعتبار البُعد الأخلاقي، والسياسي، والأنطولوجي للعلم.

كما يتوقع أن يزداد التركيز على العلوم المعيارية (Normative Sciences) التي لا تكتفي بتفسير الواقع، بل تتجه نحو تشكيله وتغييره، انطلاقًا من رؤية إنسانية عادلة ومستدامة. وهذا يفرض على الباحثين تجاوز منطق الحياد واللامبالاة، والانخراط الفاعل في قضايا العدالة البيئية، واللامساواة العالمية، والهيمنة الرقمية، مما يستوجب إعادة صياغة العلاقة بين العلم والقيم، بين المعرفة والسلطة، وبين التكنولوجيا والحرية.

ختامًا، فإن المذاهب الكبرى في البحث العلمي ليست مجرد أدوات معرفية، بل أنساق فكرية تعكس صراع الإنسان مع المجهول، وسعيه المحموم لفهم العالم وتحويله. وإذا كانت البشرية على أعتاب عهد جديد تتلاشى فيه الحدود بين الإنسان والآلة، بين الواقعي والافتراضي، فإن مستقبل البحث العلمي سيكون مرهونًا بقدرتنا على استيعاب هذا التحول الفلسفي والأنطولوجي العميق، وعلى بناء مذهب علمي إنساني يوازن بين الدقة والتأمل، بين التقنية والحكمة، وبين العقلانية والنقد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعاً للهاتف الذكي: بداية الوعي التكنولوجي الجديد
- الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة
- الحياد الكربوني والاقتصاد: من منطق الربح إلى منطق البقاء
- الخوارزمية والدبلوماسية: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل العلاقا ...
- حروب الخوازميات: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ميزان القوى ...
- الوحدة العربية: بين معطيات الواقع وإمكانات التحقق
- علمنة التعليم في المجتمعات العربية: بين تحديات الهوية وآفاق ...
- السيادة العسكرية في عصر الذكاء الاصطناعي: من السيطرة التقليد ...
- الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل وظائف العلاقات العامة الدولية: ...
- ديمقراطية على الهامش: قراءة نقدية في انسحاب الوعي المدني من ...
- أكذوبة القرن: كيف صاغت أمريكا الرواية الكبرى لغزو أفغانستان ...
- قوة البخار وحدود العالم: الآلة البخارية كأداة للغزو البريطان ...
- النسوية والتأويل: قراءة نقدية في مشروع التفسير النسوي للقرآن ...
- العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين
- الهيمنة الناعمة: المركزية الأوربية واستعمار الذات والهوية
- عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة
- جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر ...
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث
- الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...


المزيد.....




- -نحن وإسرائيل لدينا أعداء مشتركون-.. رجل أعمال أمريكي ينشر م ...
- بريطانيا تعتزم بناء 6 مصانع أسلحة جديدة ضمن مراجعة دفاعية
- السلطان والسفاح.. كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا الحقيقي؟ ...
- إيلون ماسك يكشف حقيقة إدمانه للمخدرات
- توغل إسرائيلي في ريف القنيطرة.. وإقامة حاجز تفتيش
- -مفاجأة- بشأن مهاجر هدد بقتل ترامب.. خطه قلب الموازين
- قتلى وجرحى بانهيار جسر في منطقة بريانسك الروسية
- بـ1.8 مليار يورو.. بريطانيا تعتزم بناء 6 مصانع أسلحة جديدة
- لكسر الجمود.. كشف تفاصيل -مقترح ويتكوف- لإيران
- صحيفة: بريطانيا تهتم بشراء طائرات أمريكية قادرة على حمل أسلح ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - حمدي سيد محمد محمود - أزمة العلم المتصدع: من اليقين التجريبي إلى سيولة المعرفة