أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة














المزيد.....

الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 10:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يشكل مفهوم الفردية عند كيركجارد حجر الزاوية في مشروعه الفلسفي، بوصفه ردًّا جذريًا على النزعة الجماعية السائدة في الفلسفة الهيغلية، وعلى كل منظومة فكرية تسعى إلى إذابة الإنسان في الكليات المجردة أو الأنظمة الشمولية. في نظر كيركجارد، لا يُمكن فهم الحقيقة إلا من خلال الفرد بوصفه كائناً وجودياً متفرداً، يحمل في ذاته التوتر الدائم بين المحدودية واللانهاية، بين الزمني والأبدي، بين الجسد والروح. ولهذا فإن الفرد ليس مجرد عنصر في مجتمع أو جزء من نظام، بل هو كائن حر، مسؤول أمام الله والوجود، يعيش باستمرار في توتر درامي مع نفسه والعالم من حوله.

إن الفردية عند كيركجارد ليست تمجيداً أنانياً للذات أو دعوة إلى الانعزال، بل هي موقف وجودي يتأسس على الوعي الذاتي العميق والمواجهة الصادقة مع مسؤوليات الحرية. فالفرد لا يُصبح "ذاتاً" إلا حين يعي أنه يقف بمفرده أمام الله، وأنه ليس له مهرب من اتخاذ القرارات المصيرية التي تحدد معنى حياته واتجاهها. هذا الوعي بالذات، والقدرة على اختيار الذات أمام الله، هو ما يميز "الذات الحقيقية" عن "الذات المزيفة" التي تنخرط في تكرار اليومي وتنسى وجودها الأصيل.

لكن هذه الفردية، بما تنطوي عليه من حرية ومسؤولية، تُفضي حتمًا إلى القلق الوجودي، الذي يعدّه كيركجارد التجربة الجوهرية للإنسان أمام الحقيقة والحرية والموت والله. القلق الوجودي ليس مرضاً نفسياً ولا حالة طارئة، بل هو نقطة التماس بين الإنسان ومصيره النهائي، ذلك الشعور العميق بالذعر والرهبة أمام انفتاح الإمكانيات اللانهائية للحرية. ففي كتابه "مفهوم القلق" (The Concept of Anxiety)، يبيّن كيركجارد أن القلق هو الحالة التي تسبق الخطيئة، وهو في الوقت ذاته تعبير عن قدرة الإنسان على الاختيار والانفتاح على الأبدية. القلق عنده هو حالة "ملتبسة"، فهو يحمل في طياته التهلكة والنجاة معاً، السقوط والانبعاث، الخوف والأمل.

وفي هذه اللحظة من القلق، ينكشف للإنسان أنه ليس كائناً مغلقًا، بل منفتح على المطلق، وأنه لا يجد في العالم معنى جاهزاً، بل يجب أن يصنعه من خلال الإيمان، لا كمعرفة عقلانية، بل كـ"قفزة" وجودية، يغامر بها الفرد نحو المجهول المطلق: الله. هنا يتجاوز كيركجارد العقلانية الدينية التقليدية، ويدعو إلى نوع من الإيمان التراجيدي، إيمان يتطلب تضحية الذات العقلانية أمام المطلق، كما يتجلى في تحليله العميق لقصة إبراهيم الذي قَبِلَ، بإيمان، أن يقدّم ابنه إسحق قربانًا دون أن يفهم السبب، متحدياً بذلك كل منطق دنيوي.

الفرد في فلسفة كيركجارد هو إذًا مشروعٌ دائمٌ للوجود الأصيل، مشروع محفوف بالتوترات والصراعات والاختيارات المؤلمة، لكنه وحده القادر على أن يمنح الحياة معناها. وهو يرى أن غياب هذا البعد الفردي الأصيل، وانغماس الإنسان في جماعات هلامية أو قناعات زائفة، يؤدي إلى "يأس روحي"، لأن الإنسان حين يهرب من حقيقته، يبتعد عن ذاته وعن الله في آنٍ واحد. من هنا تصبح الفردية الوجودية لا مجرد مطلب فلسفي، بل نداءً روحيًا وأخلاقيًا للإنسان المعاصر ليعيد التفكير في علاقته بالعالم، بذاته، وبالمطلق.

وفي ضوء ذلك، تتضح عظمة مشروع كيركجارد الذي لم يكن مهتماً بإقامة نسق فلسفي مغلق كما فعل هيغل، بل كان يسعى إلى إيقاظ الإنسان من غفلته الوجودية، ودفعه إلى مواجهة ذاته عاريًا أمام المطلق، ليدرك أنه مدعوٌّ إلى أن "يُصبح ذاته"، لا كما يريد العالم، بل كما أراده الله. إنها فلسفة تنطلق من الذات لتعود إليها، لكنها في هذا المسار تطهّرها من الزيف، وتطهّر الوجود من السطحية، في محاولة دؤوبة لكشف المعنى الأصيل للحياة الإنسانية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياد الكربوني والاقتصاد: من منطق الربح إلى منطق البقاء
- الخوارزمية والدبلوماسية: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل العلاقا ...
- حروب الخوازميات: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ميزان القوى ...
- الوحدة العربية: بين معطيات الواقع وإمكانات التحقق
- علمنة التعليم في المجتمعات العربية: بين تحديات الهوية وآفاق ...
- السيادة العسكرية في عصر الذكاء الاصطناعي: من السيطرة التقليد ...
- الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل وظائف العلاقات العامة الدولية: ...
- ديمقراطية على الهامش: قراءة نقدية في انسحاب الوعي المدني من ...
- أكذوبة القرن: كيف صاغت أمريكا الرواية الكبرى لغزو أفغانستان ...
- قوة البخار وحدود العالم: الآلة البخارية كأداة للغزو البريطان ...
- النسوية والتأويل: قراءة نقدية في مشروع التفسير النسوي للقرآن ...
- العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين
- الهيمنة الناعمة: المركزية الأوربية واستعمار الذات والهوية
- عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة
- جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر ...
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث
- الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...
- نيران القرون الوسطى: تاريخ الحروب في أوربا
- الانفصال العظيم: صعود الصين وكسر القبضة الأمريكية على الفضاء ...


المزيد.....




- بخطوات محسوبة بدقة.. شاهد ما يفعله فريق مختص لإعادة صغار الد ...
- ماذا يتضمن المقترح الأمريكي الجديد لوقف إطلاق النار بين حماس ...
- أنقرة تقترح استضافة قمة تجمع ترامب وبوتين وزيلينسكي... وموسك ...
- دراسة: نصف البشرية تحت نيران التغير المناخي
- “شهادة من قلب الانتفاضة: دمنات 1984 بعدسة مناضل تقدمي”
- القضاء يجيز لإدارة ترامب إلغاء الوضع القانوني لنصف مليون مها ...
- سوريا.. أهالي القنيطرة يطردون دورية إسرائيلية وينزعون علمها ...
- -أدوات قذرة بيد العدو-.. قبائل وعشائر البادية بغزة ترفع الغط ...
- القاهرة تستضيف اجتماعا ثلاثيا لدول جوار ليبيا بحثا عن حل للأ ...
- صحيفة -هآرتس- العبرية: تغيير أماكن المختطفين بغزة يجعل الجيش ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد: قراءة فلسفية شاملة