أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين














المزيد.....

العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 19:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تشكل العلاقة بين الفكر الفلسفي والنصوص الدينية واحدة من أكثر العلاقات توتراً وخصوبة في التاريخ الفكري للبشرية. فهي علاقة تنطوي على صراع وتفاعل، تناقض وتكامل، رفض وتداخل، عبر مختلف الحقب الحضارية والثقافات. ينبع هذا التوتر من أن الفلسفة، بطبيعتها العقلانية، تسعى إلى فهم الوجود من خلال أدوات النقد والتأمل العقلي الحر، بينما ترتكز النصوص الدينية على مفهوم الوحي والقداسة والثبات، وتستمد سلطتها من مصدر غيبي يتجاوز العقل البشري. من هنا، كان التحدي الدائم في التاريخ يتمثل في محاولة مواءمة هذين المصدرين للمعرفة دون أن يُلغي أحدهما الآخر.

لقد بدأت هذه الجدلية منذ الفلسفة اليونانية القديمة، حيث رأى أفلاطون وأرسطو أن للعقل قدرة على إدراك الخير والحق والجوهر، إلا أن لحظة التوتر الحقيقية برزت حين دخلت النصوص المقدسة في تماس مباشر مع السؤال الفلسفي، خصوصًا فيما يتعلق بطبيعة الله، الحرية، الخلق، والعناية الإلهية. في هذا السياق، كان للفارابي، ابن رشد، والغزالي، أدوار محورية في العالم الإسلامي، تمامًا كما كان لتوما الأكويني، أوغسطينوس، وديكارت أدوار مشابهة في الفكر المسيحي.

الغزالي، مثلاً، مثل لحظة مفصلية في الاشتباك بين النصوص الدينية والفلسفة؛ إذ لم يرفض الفلسفة مطلقًا، لكنه انتقد ما رآه انحرافًا عن مقاصد الشريعة في بعض أطروحات الفلاسفة، خصوصًا ما يتعلق بقدم العالم أو إنكار المعاد الجسدي. أما ابن رشد، فدافع بقوة عن توافق الشريعة مع الحكمة، مؤسسًا لما سماه بـ"الحق لا يضاد الحق". هذه الجدلية لم تكن فقط قضية لاهوتية أو معرفية، بل كانت أيضًا سياسية وثقافية، تعكس موازين القوى بين السلطة الدينية والعقل النقدي.

في السياق الحديث والمعاصر، أعيد فتح هذا الجدل في ضوء تطورات العلم والحداثة، خاصة مع صعود النزعة الوضعية والعلموية التي أقصت الدين عن ميدان العقل والمعرفة. الفلاسفة المعاصرون مثل نيتشه، هايدغر، فويرباخ، ودريدا، تعاملوا مع النصوص الدينية لا باعتبارها معطى إيمانيًا، بل كمادة للتحليل والتفكيك، معتبرين أن الدين -في كثير من صوره- يعكس بنى رمزية وثقافية واجتماعية أعمق من مجرد منظومة عقائدية.

لكن الجدلية لم تسر دومًا في اتجاه النفي أو الإلغاء؛ فهناك من حاول دمج الأفقين، كما فعل بول تيليش، أو عبد الجبار الرفاعي في الفكر العربي المعاصر، من خلال دعوات إلى "لاهوت تأويلي" يتجاوز القراءة الحرفية للنصوص ويعيد لها راهنيتها عبر مقاربة فلسفية تؤمن بأن النص لا يكتمل إلا بفعل التأويل، وأن الحقيقة الدينية تظل ديناميكية ومتعددة.

تتجلى إحدى الإشكاليات الجوهرية في هذه العلاقة في مسألة "السلطة على المعنى". فالنص الديني، بطبيعته، يتسم بالقداسة والثبات، مما يمنح المؤسسة الدينية سلطة تأويلية قد تتحول إلى احتكار للمعنى. أما الفلسفة، فترتكز على الشك المنهجي والبحث الدائم عن بدائل، ما يجعلها تهدد هذه السلطة في كثير من الأحيان. لذلك، فإن العلاقة بين الاثنين غالبًا ما تتخذ طابعًا صراعيًا حين يشعر أحد الطرفين بأن وجوده مهدد بتأويلات الآخر.

أما على مستوى المسارات المستقبلية، فإن هذه الجدلية تزداد أهمية في ظل التغيرات التكنولوجية والأنثروبولوجية الكبرى. فمع صعود الذكاء الاصطناعي، وتحول الإنسان إلى كائن رقمي معاد تشكيله، يطرح السؤال الديني والفلسفي من جديد: ما معنى الإنسان؟ وما غاية وجوده؟ وهل لا تزال مفاهيم مثل الروح، الغيب، المعنى، والخلاص قابلة للصياغة في عالم يتحرك نحو ما بعد الإنسانية؟ هنا، تبدو الحاجة إلى حوار جديد بين النص الديني والفلسفة ضرورة وجودية، لا مجرد ترف فكري.

إن مستقبل الدين والفلسفة سيكون رهينًا بقدرة الطرفين على الإنصات لبعضهما البعض دون محاولة الإقصاء أو الاستحواذ. فالدين دون الفلسفة قد يتحول إلى جمود طقوسي، والفلسفة دون الدين قد تنزلق إلى عبثية مفرغة من القيم. إن إعادة بناء العلاقة بين النص المقدس والعقل التأويلي يمكن أن تفتح أفقًا جديدًا لفهم أكثر إنسانية، وأقل سلطوية، لموقع الإنسان في الكون، حيث لا تُغتال الروح باسم العقل، ولا يُكفَّر العقل باسم النص.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهيمنة الناعمة: المركزية الأوربية واستعمار الذات والهوية
- عبد الله التعايشي: بين الحلم المهدوي وسقوط الدولة
- جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر ...
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث
- الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...
- نيران القرون الوسطى: تاريخ الحروب في أوربا
- الانفصال العظيم: صعود الصين وكسر القبضة الأمريكية على الفضاء ...
- من العقيدة إلى الدستور: معالم الدولة عند المودودي
- عقل الدولة وهيمنة الفكرة: الدولة عند هيجل بين الفلسفة والسيا ...
- حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر
- إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل


المزيد.....




- أسد جبل يفاجىء مصورًا بحركات غريبة أمام كاميرا سرية في الغاب ...
- الحملة العسكرية البرية -عربات جدعون-... هل ستنجح إسرائيل في ...
- مصر: هبوط الدولار إلى أدنى مستوى منذ 6 أشهر.. خبراء يكشفون ا ...
- روبيو: الولايات المتحدة لم تتوقف عن إمدادات الأسلحة إلى أوكر ...
- تصعيد دبلوماسي بين لندن وتل أبيب: بريطانيا تعلق مفاوضات التج ...
- وزير الخارجية الأمريكي: لا حدود لخبث النظام الكوبي وجبنه
- نوال الدجوي.. سرقة بقيمة 6 ملايين دولار من منزل سيدة الأعمال ...
- -منطقة ممنوعة على المسلمين-.. مضامين عنصرية في ملصقات علقت ب ...
- إعلان -اتصالات- لنادي الأهلي المصري يغضب جماهير الزمالك
- روبرت فورد: -طُلب مني إخراج أحمد الشرع من عالم الإرهاب لعالم ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل والوحي: جدلية الوجود بين الفلسفة والدين