الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطناعي

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 10:18
المحور: الصحافة والاعلام
    

د.حمدي سيد محمد محمود
تشهد الثقافة الرقمية تحوّلاً جذريًا في عصر الذكاء الاصطناعي، إذ لم تعد مجرد ظاهرة تقنية أو امتدادٍ للثورة المعلوماتية، بل أصبحت نسقًا معرفيًا وسوسيولوجيًا يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويُعيد هيكلة العلاقات بين الأفراد والمؤسسات والمجتمعات. لقد غيّر الذكاء الاصطناعي وجه المشهد الاتصالي والإعلامي، فلم يعد الاتصال مقتصرًا على التفاعل بين البشر، بل دخلنا طور ما يُمكن تسميته بـ"الاتصال ما بعد البشري"، حيث تتولى الخوارزميات مهمّة التوجيه، والفلترة، وإعادة ترتيب المعنى، وتوليد المحتوى، وصياغة الواقع الرمزي. إن الثقافة الرقمية الجديدة – المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي – أصبحت بمثابة بنية فوقية تتحكم في تشكيل الأذواق، القيم، الاتجاهات، والهويات، حتى أنها باتت تؤثر على الوعي السياسي، وصناعة الرأي العام، وخرائط المعرفة.

ومن هذا المنظور، يُمكن القول إن الذكاء الاصطناعي لا يعمل فقط كأداة في يد الإنسان، بل بوصفه شريكًا معرفيًا وإدراكيًا يتدخل في إنتاج المعنى، وتشكيل المدركات الحسية والرمزية في الفضاء الرقمي. فمحرّكات التوصية، وتقنيات تحليل المشاعر، والخوارزميات الإقناعية، وأنظمة التعرّف على الأنماط، كلها تُنتج "بيئة اتصالية جديدة" ذات منطق خوارزمي يختلف عن منطق الاتصال التقليدي. إنها ثقافة تقوم على السرعة، والتجزئة، والمراقبة الدقيقة، والكمّ الهائل من البيانات، وتحويل المستخدمين إلى "مُنتَجين للبيانات" في دورة دائمة من التحليل والاستهداف وإعادة التشكيل.

وفي ضوء هذه التحولات العميقة، بات من الضروري إعادة النظر في الحقول المعرفية لعلوم الاتصال والإعلام. فالنماذج الكلاسيكية التي أسّست هذا العلم – من النظرية الخطية إلى نظريات التأثير المحدود والنماذج البنائية – أصبحت عاجزة عن تفسير آليات التأثير في بيئة تتشكّل فيها الحقائق إعلاميًا داخل أنظمة مغلقة تُصممها خوارزميات التعلّم الآلي والتقنيات التنبؤية. كما لم تعد مفاهيم مثل "الإرسال والاستقبال"، أو "المرسل والمتلقي"، قادرة على التعبير عن الواقع الاتصالي الجديد، حيث تتفاعل الكيانات البشرية وغير البشرية (bots، AI agents، الذكاء الاصطناعي التوليدي) في فضاء اتصالي هجين، يذيب الفواصل بين الحقيقي والافتراضي، وبين الطبيعي والمصطنع.

في هذا السياق، تظهر توجهات مستقبلية جوهرية تستدعي التوقف عندها في دراسات الاتصال والإعلام. أول هذه التوجهات يتمثل في صعود الأنظمة الذكية للإقناع الإعلامي، وهي أنظمة قادرة على تصميم حملات تواصلية فائقة الاستهداف والتأثير بناءً على تحليل البيانات الضخمة، والتعرّف على الأنماط النفسية والسلوكية للمستخدمين. أما التوجه الثاني، فيكمن في إعادة تعريف مفاهيم الحرية الإعلامية والأخلاقيات الصحفية، إذ أصبحت هذه القيم مهددة في ظل تحكّم الخوارزميات في الوصول إلى المعلومات، وازدياد التحيزات الخفية في الأنظمة الذكية التي تُعيد إنتاج عدم المساواة المعرفية والثقافية. أما التوجه الثالث، فيرتبط بـدمج الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الصحفي والروائي والسينمائي والتوثيقي، مما يطرح أسئلة معقدة حول حدود الإبداع البشري، ومكانة الذات في فضاء باتت فيه الماكينة تنتج نصوصًا وصورًا وصوتًا بصورة تكاد تضاهي الإنسان.

علاوة على ذلك، فإن الثقافة الرقمية في ظل الذكاء الاصطناعي تُعيد رسم ملامح السلطة الاتصالية، إذ لم تعد وسائل الإعلام التقليدية تحتكر التأثير والتوجيه، بل أصبح النفوذ موزعًا بين كيانات خفية: شركات التكنولوجيا الكبرى، أنظمة الذكاء الاصطناعي، وسُحب البيانات، مما يستدعي تطوير نظريات جديدة لفهم توازنات القوة في هذا الفضاء. كما أن التوجه نحو الواقع المعزز والميتافيرس يفرض على علوم الإعلام التفكير في طبيعة المعنى في العوالم الرقمية البديلة، وفي علاقة الإنسان بالمكان والزمان في بيئة افتراضية لا تُدار وفق القوانين الفيزيائية التقليدية.

إننا أمام لحظة فاصلة في تطور علوم الاتصال والإعلام، لحظة تتطلب إعادة تأسيس هذا التخصص على قواعد فلسفية ومعرفية جديدة تأخذ في اعتبارها دور الذكاء الاصطناعي في إنتاج الحقيقة، وصناعة المعنى، وتشكيل الوعي الجمعي. فالرهان اليوم لا يقتصر على تطوير أدوات الإعلام أو تحديث مناهج التدريس، بل على بناء رؤية نقدية متماسكة تستوعب التداخل العميق بين التكنولوجيا والسلطة والثقافة، وتُسائل الأطر التي تُدار بها المجتمعات عبر تقنيات الاتصال الخوارزمية.

وبهذا المعنى، فإن مستقبل الثقافة الرقمية مرهون بقدرتنا على التحكم في الذكاء الاصطناعي لا الخضوع له، وعلى تطوير نظريات جديدة للاتصال والإعلام تكون قادرة على مساءلة البُنى التقنية، وتحليل الأنماط السلوكية، وفهم تعقيدات الخطاب الرقمي، واستشراف التحولات المستقبلية في سياق عالمي تتسارع فيه وتيرة التطور، وتتشابك فيه الحدود بين الإنسان والآلة، وبين الحرية والتحكم، وبين الواقع والتمثيل.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل