أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة النفعية














المزيد.....

العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة النفعية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 11:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في قلب الصراع الفلسفي الذي شهدته أوروبا الحديثة، انبثقت رؤية إيمانويل كانط الأخلاقية كصرخة عقلانية في وجه تصاعد الفلسفات المادية التي اختزلت الإنسان في أبعاده الغريزية والنفعية. ففي الوقت الذي كانت فيه النزعات التجريبية والذرائعية تعيد تعريف الأخلاق باعتبارها مجرد استجابات للمنفعة أو نتائج مرغوبة، قدّم كانط تصورًا أخلاقيًا مناقضًا تمامًا، ينطلق من الإيمان العميق بأن الأخلاق لا يمكن أن تكون رهينة للنتائج أو الرغبات، بل يجب أن تُستمد من العقل الخالص ذاته، لا من التجربة ولا من الانفعال.

كانط لم يرَ في الأخلاق سلوكًا متغيرًا أو قاعدة اجتماعية مرنة، بل اعتبرها قانونًا كونيًا صارمًا يجب أن يلتزم به كل كائن عاقل. إن القيمة الأخلاقية لا تُقاس بنتائج الفعل، بل تُقاس بنيّة الفاعل ومدى احترامه للواجب الذي يفرضه العقل، وهو ما عبّر عنه بمفهومه الثوري: "الأمر المطلق" – ذلك القانون الأخلاقي الذي يصدر عن العقل، ويصلح لأن يكون قاعدة عامة لجميع البشر في كل زمان ومكان. من هنا، تصبح الحرية الأخلاقية ليست تحررًا من القانون، بل خضوعًا طوعيًا له بوصفه تعبيرًا عن جوهر العقل الإنساني.

ورغم أن فلسفة كانط لا تتجاهل واقع الإنسان بكل ما فيه من ضعف، إلا أنها تطمح إلى تأسيس منظومة أخلاقية لا تبرر الانحراف ولا تنحدر إلى النسبية. فالأخلاق، في تصوره، لا يمكن أن تقوم على ما هو عرضي أو شخصي أو منفعي، بل على مبدأ سابق على التجربة، قبلي، يعكس الطبيعة العقلانية المشتركة بين جميع البشر. الإنسان عنده ليس أداة لتحقيق غاية خارجية، بل هو غاية في ذاته، ويجب أن يُعامل كذلك دائمًا. وبهذا يُعيد كانط إلى الأخلاق بعدها الكرامي، الذي يتجاوز الاستخدام والتشييء، ويُكرّس احترام الإنسان بوصفه كائنًا حرًّا وعاقلًا.

لقد مثّلت هذه الرؤية تحديًا جذريًا للفلسفات الأوروبية المادية، مثل النفعية عند بنتام وميل، والتجريبية عند هوبز وهيوم، والتي أسست الأخلاق على اللذة أو المنفعة أو التعاقد الاجتماعي. هؤلاء المفكرون رأوا في الإنسان كائنًا يسعى لتحقيق أقصى قدر من اللذة، ويتهرب من الألم، أما كانط فرأى في الإنسان كائنًا أخلاقيًا في الأساس، قادرًا على تجاوز مصالحه الخاصة من أجل الواجب، وعلى احترام القانون الأخلاقي حتى لو كلّفه ذلك تنازلات أو تضحيات.

إن هذه الفلسفة لا تنفصل عن رؤيته العامة للحداثة، بل تأتي في صلب مشروعه النقدي الذي أراد من خلاله إنقاذ العقل من الوقوع في براثن الحسّ والتجربة وحدهما. فكما حاول في "نقد العقل الخالص" أن يحدّد شروط إمكان المعرفة، حاول في "نقد العقل العملي" أن يحدد شروط إمكان الأخلاق. وفي كليهما، ظل العقل هو السلطة العليا التي تمنح الإنسان مكانته وقيمته. لكن بينما اتجهت الحداثة الأوروبية إلى اختزال الإنسان في البعد الاقتصادي أو الاجتماعي أو البيولوجي، وقف كانط ليُذكّر بأن كرامة الإنسان لا تُقاس بما يملك أو بما يُنتج، بل بما هو عليه: ذات عاقلة، حرّة، ومُلزَمة أخلاقيًا.

اليوم، في ظل ما يشهده العالم من تصاعد النزعات التقنية والنفعية، ومن محاولات مستمرة لتسييل القيم وتحويلها إلى أدوات للهيمنة أو الربح، تبدو دعوة كانط إلى تأسيس الأخلاق على العقل أكثر راهنية من أي وقت مضى. إنها ليست مجرد نظرية فلسفية، بل صرخة وجودية تطالب الإنسان أن يتجاوز واقعه الأداتي، وأن يستعيد صوته الداخلي، ذلك الصوت الذي يُنذره دائمًا: "يجب عليك، لأنك تستطيع". وبين "الواجب" و"الحرية"، ينهض مشروع كانط الأخلاقي كدرع في وجه العدمية الأخلاقية، وكسؤال مفتوح أمام ضمير الإنسان المعاصر.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط
- صعود المؤثرين: قادة الرأي في زمن الخوارزميات
- صناع الوعي: الفلاسفة الذين أعادوا تشكيل العالم
- الانفجار العظيم: من لحظة البدء إلى حدود المعنى
- الاتصالات التسويقية المتكاملة في عصر الذكاء الاصطناعي: بين ا ...
- التأويل في قبضة المعنى: نحو فهم حتمي للاتصال بوصفه فعلاً إنس ...
- الحياد الكربوني والجيوسياسة: من البيئة إلى ميزان القوى العال ...
- الشعبوية الخوارزمية: كيف تُعيد الخوارزميات تشكيل التعبئة الس ...


المزيد.....




- واشنطن بوست: الاستخبارات اخترقت اتصالات بين مسؤولين إيرانيين ...
- مخاوف دولية حول مصير السجناء الأجانب.. إيران تعترف بمقتل 71 ...
- القضاء التركي على موعد مع قرار حاسم: هل يطيح بزعيم المعارضة؟ ...
- نتنياهو: -النصر- على إيران يوفر -فرصا- للإفراج عن الرهائن في ...
- من أجل سوسيولوجيا معادية للصهوينة
- مستشار كوفي أنان: إدارة ترامب تفكك الحكومة الفدرالية وتقوض ا ...
- رئيس صربيا يرفض الرضوخ لمظاهرات المعارضة
- غسان سلامة: الشعوب العربية تخاذلت عن نصرة غزة
- التحقيق بتحطم الطائرة الهندية يطرح جميع الفرضيات
- تسريب جديد يقلل من أضرار البرنامج النووي الإيراني


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة النفعية