أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من الحداثة إلى ما بعد الحداثة














المزيد.....

من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من الحداثة إلى ما بعد الحداثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 00:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د حمدي سيد محمد محمود
مثّلت الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة ساحةً عميقة للصراع بين مفهومي "الأساس" و"التشظي"، بين تطلع العقل إلى تأسيس الحقيقة، وانهيار هذا التطلع ذاته تحت وطأة التفكيك والتأويل. لقد دشّنت الحداثة فلسفيًّا بمشروع ديكارت العقلاني، الذي جعل من الشك طريقًا إلى اليقين، ومن الذات المفكرة أساسًا لكل معرفة. فكان "أنا أفكر، إذن أنا موجود" هو الإعلان الفلسفي الجريء لانفصال الإنسان عن الطبيعة، وتمركز الذات في قلب الوجود. ومن هنا نشأت عقلانية تؤمن بقدرة الإنسان على السيطرة على العالم، بالعلم والمنهج، والتقدم الخطي للتاريخ.

لكن هذا المشروع العقلاني لم يكن واحدًا متماسكًا، بل كان متعدّد المسارات، ومتعرجًا في تطوره. فقد جاء إيمانويل كانط ليعيد صياغة علاقة العقل بالتجربة، مؤكدًا أن العقل لا يكتفي باستقبال المعطى الحسي، بل يفرض عليه أشكاله المسبقة، ليخلق عالمًا قابلاً للفهم. وهنا، يُولد الإنسان الحديث ككائن أخلاقي وقانوني، قادر على التشريع الذاتي، على نحو ما عبّر عنه كانط في فكرته عن "الإرادة الحرة" و"الواجب الأخلاقي". أما هيجل، فذهب إلى أن العقل لا يعمل فقط داخل الفرد، بل في حركة التاريخ نفسه، الذي يتطور جدليًّا نحو المطلق، حيث يتصالح الفرد مع الكل، وتندمج الحرية في الدولة بوصفها التجلي الأعلى للعقل.

غير أن هذا المسار العقلاني الميتافيزيقي، بقدر ما أنتج طموحًا إنسانيًّا غير مسبوق، فإنه اصطدم بأزمات الوجود والهوية والحرية، فبرزت اعتراضات وجودية ونقدية عميقة. فـكيركيغارد، مؤسس الوجودية، ثار على شمولية هيجل العقلانية، داعيًا إلى استعادة الفرد في معاناته، وتردده، وقلقه، مؤكدًا أن الحقيقة لا تُدرَك إلا بالوجود الذاتي، لا بالمنطق الكلي. ثم جاء نيتشه ليهدم الأنساق الكبرى جميعها، معلنًا "موت الإله"، أي زوال المرجعيات النهائية للمعنى، ليحلّ محلها الإنسان العابر، المتفوق، الذي يخلق قيمه الخاصة في عالم بلا أساس. لقد كان نيتشه إيذانًا بانهيار المشروع الحداثي من داخله، حيث تفككت ميتافيزيقاه، واهتز يقينه بالتقدم والعقل والحقيقة.

في هذا السياق المتشظي، جاءت فلسفات ما بعد الحداثة لتدفع هذا التشكيك إلى أقصاه، وتُدخل الفكر الأوروبي في مرحلة جديدة تقوم على الهدم والنقد والتفكيك المستمر. فـميشيل فوكو، على سبيل المثال، أطاح بالفكرة التقليدية للمعرفة كمرآة للواقع، ليُظهر كيف أن المعرفة مرتبطة ببُنى السلطة، وكيف أن الخطابات تُنتج "الحقائق" لا تكتشفها. في كتاباته عن السجن والجنون والجنسانية، كشف عن أن المؤسسات لا تُقوم الأفراد فحسب، بل تُنتج ذواتهم وتُشكل هوياتهم. أما جاك دريدا، فقد سحب البساط من تحت كل محاولة لتثبيت المعنى، مؤكدًا أن كل نص يحمل داخله قابليته للهدم، لأن المعنى دائم التأجيل، واللغة لا تُحيل إلى شيء ثابت، بل تدور في لا نهائية من الاختلافات.

ومع جان بودريار، دخلنا مرحلة "ما بعد الواقع"، حيث أصبح الإنسان محاطًا بالرموز والصور التي لا تحاكي الواقع، بل تصنعه. فـ"الواقع" ذاته تم ابتلاعه في فضاء المحاكاة، وأصبحت المجتمعات تُدير نفسها من خلال أنظمة من العلامات والتمثيلات التي تحجب الحقيقة أكثر مما تكشفها. وهكذا، لم يعد العقل موضع ثقة، ولا الحقيقة موضوعًا للبحث، بل أصبح كل شيء محلّ شك، وكل يقين محلّ نقد، وكل بنية قابلة للتفكيك.

إن فلاسفة الحداثة وما بعدها لا يُمكن فهمهم إلا في علاقة جدلية مستمرة، فهم ليسوا خطًّا مستقيمًا بل نسيجًا معقدًا من الانقطاعات والتجاوزات. الحداثة كانت مشروعًا لإعلاء شأن الإنسان، لكن ما بعد الحداثة شككت في هذا المشروع ذاته، كاشفة عن وجوهه القمعية، وعن وهم مركزيته. وهكذا، انتقلت الفلسفة الأوروبية من تأسيس الذات إلى تقويضها، ومن التعالي إلى الانغماس في التفاصيل، ومن الإيمان بالعقل إلى افتتان باللا-معقول. والنتيجة أننا اليوم نعيش في زمن تتصارع فيه سرديات الحداثة مع شظايا ما بعد الحداثة، في مشهد فكري متوتر، معقد، مفتوح على إمكانيات متعددة للفكر والمعنى والحرية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...


المزيد.....




- صيحة الفساتين البراقة تعود بقوة مع النجمات في صيف 2025
- -الصراع في السويداء ليس طائفيًا فقط-.. خبيرة توضح لـCNN ما ي ...
- مؤرخ إسرائيلي: أنا باحث في مجال الإبادة الجماعية وأميزها عند ...
- البالونات الحرارية آلية دفاعية لتضليل الصواريخ عن هدفها
- خبير عسكري: إسرائيل تحاول تطبيق نموذج الضفة في غزة
- استفاد منها ماسك وشركاته.. تعرف على تأشيرة العمل الأميركية - ...
- الطريق إلى الشرعية المؤجلة.. السلطة والاستثناء والديمقراطية ...
- شركة في دبي تأمل بإطلاق خدمة التاكسي الطائر في عام 2026
- ماذا قدّم أسبوع باريس للأزياء الراقية لعروس شتاء 2026؟
- أوروبا تمنح إيران مهلة: إما التفاوض بشأن برنامجها النووي أو ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من الحداثة إلى ما بعد الحداثة