أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث














المزيد.....

الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 00:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
ترتبط العلاقة الفلسفية بين كيركيجارد ونيتشه وسارتر وهيدجر بخيوط رفيعة لكنها شديدة التماسك في عمقها، إذ تشكل هذه العلاقة أحد أهم الجذور الفكرية التي أرست معالم الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، خاصة في ما يتعلق بالوجودية، والقلق، والحرية، والتفرد، وانهيار المطلقات. فمن خلال قراءة استبطانية لتجربة كيركيجارد، نكتشف أنه لم يكن فيلسوفًا تقليديًا، بل كان الصوت الأول الذي صرخ في وجه الفلسفة الممنهجة، وأعاد توجيه الاهتمام من العالم الخارجي إلى التجربة الذاتية، إلى الفرد، إلى ذاك الإنسان الوحيد في حضرة الله والوجود والاختيار والقلق. لقد أسس كيركيجارد ما يمكن تسميته بـ"درامية الوجود"، وهي نقطة الانطلاق التي ستؤثر في أعماق الفلاسفة الذين جاؤوا بعده، رغم اختلافهم الجذري عنه في الموقف من الدين.

نيتشه، الذي غالبًا ما يُفهم على أنه النقيض الفلسفي لكيركيجارد، كان في الواقع وريثًا غير مباشر له، وإن كان قد قلب موروثه رأسًا على عقب. فإذا كان كيركيجارد قد رأى في الإيمان قفزة إلى المطلق تتجاوز العقل، فإن نيتشه أعلن "موت الإله" ودعا الإنسان إلى أن يكون هو الإله الجديد. ومع ذلك، فإن جوهر العلاقة بينهما يكمن في الفردية الراديكالية، وفي استبطان القلق كحقيقة وجودية. لقد سعى كل منهما، وإن بطريقين متعاكسين، إلى تحرير الإنسان من قبضة الأنظمة الجاهزة – سواء كانت دينية أو عقلانية أو ميتافيزيقية – والانطلاق نحو مشروع الوجود الحر. في هذا السياق، يصبح نيتشه وكيركيجارد أشبه بوجهي عملة واحدة: أحدهما يسبح نحو الله على شفا الهاوية، والآخر يقف على حطام الإله ليبني معنىً جديدًا للإنسان.

أما هيدجر، فقد جاء ليُعيد تأمل سؤال الوجود نفسه، انطلاقًا من تجربة القلق والعدم التي كانت حاضرة بقوة عند كيركيجارد. ورغم تحفظ هيدجر عن التصنيف الوجودي التقليدي، إلا أن مفهومه لـ"الوجود-في-العالم" (Dasein) كان تتويجًا لفكرة كيركيجارد حول الذات التي تقف في مواجهة ذاتها والعالم والله. القلق عند هيدجر، كأفق ينفتح فيه الإنسان على حقيقته الوجودية، ليس إلا صدىً معمّقًا لذلك التوتر الكيركيجاردي بين الإمكانيات والتناهي، بين الاختيار والمجهول. لكن هيدجر، خلافًا لكيركيجارد، يسحب البساط من تحت الدين، ويُبقي الإنسان في العراء الوجودي، في مواجهة العدم، دون خلاص.

ثم يأتي سارتر، الذي يمكن اعتباره التعبير الأكثر اكتمالًا للبعد الإنساني-الاجتماعي في الإرث الكيركيجاردي، وقد أضاف إليه نَفَسًا ماركسيًا ونزعةً أخلاقية لا تخلو من مسؤولية تجاه العالم. سارتر يؤكد أن "الوجود يسبق الماهية"، وهو بذلك يضع الذات في قلب الفعل الخلاّق للمعنى، تمامًا كما فعل كيركيجارد حين قال إن الإنسان لا يوجد إلا في لحظة الاختيار الحر. لكن سارتر، وقد تخلص من الله، يُحوّل مسؤولية المعنى بالكامل إلى كاهل الإنسان، الذي يجد نفسه محكومًا بالحرية. هذه الحرية، بما تحمله من قلق وخوف وسقوط محتمل، ليست سوى امتداد درامي لفكرة كيركيجارد عن الإيمان كـ"قفزة" في المجهول، وعن القلق كعلامة على أن الإنسان لا يملك ذاته إلا بتمزق.

تتجلى أهمية هذه العلاقة الفلسفية العميقة بين كيركيجارد وهؤلاء المفكرين في التأثير البالغ الذي تركته على ملامح الفلسفة الأوروبية الحديثة. لقد أدت إلى تهميش الخطابات الميتافيزيقية التقليدية، وأعلت من شأن الفرد، والحرية، والتجربة، والقلق، والموت، واللاجدوى، والمعنى المخلوق ذاتيًا. بل إنّها أسست لما يمكن تسميته "الحداثة الوجودية"، التي لم تعد تبحث عن الحقيقة في السماء أو في الأنظمة العقلانية المغلقة، بل في التجربة المعاشة، وفي هشاشة الإنسان، وفي تناقضاته الداخلية.

ومن خلال هذا الإرث المشترك، نجد أن الفلسفة الأوروبية الحديثة قد تحوّلت من نزعة تفسيرية للواقع إلى نزعة تعبيرية عن الذات، ومن مركزية العقل إلى مركزية الوجود الفردي، ومن يقينيات الأنوار إلى قلق ما بعد الحداثة. لقد صنع كيركيجارد التمهيد الفلسفي لهذه التحولات، وأعاد نيتشه صياغتها بلغة القوة والتمرّد، بينما أضفا هيدجر وسارتر عليها عمقًا أنطولوجيًا وسياسيًا. ومن خلال هذا التفاعل الجدلي بين هؤلاء الأربعة، أعادت الفلسفة الأوروبية تعريف الإنسان، ليس بوصفه كائنًا عاقلًا فحسب، بل كائنًا قَلِقًا، حرًّا، مأزومًا، ومسؤولًا في عالم بلا خريطة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية


المزيد.....




- قتلى وجرحى بينهم أطفال إثر غارة قرب نقطة توزيع مياه وسط غزة، ...
- ترامب يقول إن الولايات المتحدة سترسل صواريخ باتريوت الدفاعية ...
- ترامب يقرر إرسال صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا
- مقتل العشرات في اشتباكات مسلّحة جنوب سوريا
- وفاة محمد بخاري رئيس نيجيريا السابق عن 82 عاما بعد مسيرة حكم ...
- سوريا: اشتباكات دامية بين الدروز والبدو في السويداء تسفر عن ...
- قتلى وجرحى خلال اشتباكات طائفية في السويداء، فماذا يحدث في ا ...
- ماكرون يقرر زيادة الإنفاق الدفاعي بـ4 مليارات دولار في 2026 ...
- عباس: حماس لن تحكم غزة والحل الوحيد تمكين الدولة الفلسطينية ...
- مورسيا : مدينة يقطنها مهاجرون من شمال أفريقيا تهتز على وقع ا ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث