أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة














المزيد.....

هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 17:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
هانز ريشنباخ (Hans Reichenbach) يُعدّ واحدًا من أبرز فلاسفة العلم والمنطق في القرن العشرين، وهو من رواد الوضعية المنطقية وأحد المؤسسين لمدرسة برلين في فلسفة العلم، إلى جانب كونه عضوًا فعالًا في حلقة فيينا التي تركت أثرًا بالغًا في تطور الفلسفة التحليلية المعاصرة. تتجلى أهمية ريشنباخ في سعيه الدؤوب لتأسيس منطق جديد للعلم يتجاوز النزعة الميتافيزيقية، ويؤسس لفلسفة علمية صارمة تقوم على البرهان والتجريب واللغة المنطقية الدقيقة. لقد شكلت أطروحاته حول الزمان والاحتمال والسببية، ثورة على العديد من التصورات الفلسفية التقليدية، وأسست لمنهجية عقلانية علمية ذات طابع تجريبي-رياضي مميز.

لقد تأثرت فلسفة ريشنباخ إلى حد كبير بالاكتشافات الفيزيائية الكبرى في عصره، وعلى رأسها نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية الكم، وقد سعى إلى مواءمة هذه التطورات مع الأسس الفلسفية للمعرفة. ففي كتابه "The Philosophy of Space and Time"، حاول ريشنباخ بناء تفسير فلسفي متماسك للنسبية، مدافعًا عن رؤية علمية للزمان والمكان، متجاوزًا بذلك النظرة الكلاسيكية النيوتنية التي كانت سائدة. لقد رأى أن الفلسفة ينبغي أن تستمد مشروعيتها من العلم لا العكس، وأن اللغة العلمية الحديثة – بما تحمله من رموز ومعادلات ومفاهيم – هي الأداة الأساسية لفهم الواقع، لا التأملات الماورائية المجردة.

ومن أبرز إسهاماته أيضًا نظريته في "الاحتمال"، التي مثّلت قطيعة مع التقليد الكلاسيكي في فهم العلاقة بين الحدث والمعرفة. لقد اعتبر ريشنباخ أن الاحتمال ليس مجرد وصف إحصائي للوقائع، بل هو تعبير منطقي عن درجات التصديق التي يمكن إسنادها إلى الفرضيات العلمية بناءً على المعطيات التجريبية. وهنا يتجلى تأثيره الواضح على الفكر الفلسفي الأنجلوساكسوني، وخصوصًا في مجالات فلسفة اللغة وفلسفة العقل ونظرية القرار، حيث أصبح مفهوم الاحتمال أداة مركزية في تحليل الإيمان العقلاني، والحجج، والاختيارات العقلانية.

كما أن فلسفة ريشنباخ في "السببية" شكلت منعطفًا في التفكير العلمي الحديث، حيث حاول إعادة تأهيل مفهوم السببية ضمن سياق علمي معاصر، بعد أن كان هذا المفهوم قد تعرض لهجوم عنيف من قبل المدرسة الوضعية الأولى. فقد رأى ريشنباخ أن العلاقة السببية لا يمكن فهمها إلا في إطار بنية احتمالية تجريبية، أي من خلال ملاحظة التتابع الزمني المنظم لوقائع تجريبية قابلة للفحص العلمي. بهذه الطريقة، أزال الغموض الميتافيزيقي عن السببية، وأعاد دمجها في المنطق العلمي بلغة دقيقة وغير محمّلة بالدلالات الفلسفية الغامضة.

أما عن تأثير ريشنباخ في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، فقد كان تأثيرًا نوعيًّا وعميقًا، رغم أن الكثير من حضوره قد تركز في المدرسة التحليلية الإنجلوساكسونية أكثر من التيارات القارية الكبرى مثل الظاهراتية أو البنيوية. إلا أن فلسفته تركت بصمات واضحة في فلسفة العلم المعاصرة، وفي أعمال فلاسفة كبار مثل كارل همبل، رودولف كارناب، وويلارد فان أورمان كواين، حيث تمت إعادة طرح أسئلته الكبرى حول العلاقة بين اللغة والعلم، وحول إمكانية تأسيس منطق كلي شامل للمعرفة. بل إن فكره مهّد الطريق لما يُعرف اليوم بـ"الطبيعانية المنطقية" التي ترى أن الفلسفة لا يمكنها أن تقف خارج العلم أو فوقه، وإنما ينبغي أن تكون امتدادًا له.

كذلك أثّرت أطروحاته في التحولات الكبرى التي شهدتها فلسفة العلم في منتصف القرن العشرين، مثل النقد الذي وجّهه توماس كون وإيمري لاكاتوش وكارل بوبر للنسق الاستقرائي التقليدي. فعلى الرغم من اختلافهم مع ريشنباخ، إلا أنهم انطلقوا من ذات الأرضية الإبستمولوجية التي أسسها، وهي مركزية العلم في التفكير الفلسفي، والبحث عن معايير عقلانية لاختبار النظريات.

وفي هذا السياق، يُمكن القول إن ريشنباخ لم يكن مجرد فيلسوف علم، بل كان بمثابة مهندس معرفي أعاد رسم حدود العلاقة بين الفلسفة والعلم والتجربة، واضعًا الأسس لما يمكن تسميته بـ"البراديغم التحليلي العلمي". وبفضل إسهاماته، أضحت الفلسفة في العالم الحديث مطالبة بالتخلي عن الثرثرة الماورائية، والالتحاق بركب العقلانية العلمية، التي تجد في التجربة والتحقق والبرهان طريقًا للحقيقة، لا في التأمل المجرد.

وفي خضم التحديات الراهنة التي تواجهها الفلسفة الأوروبية، سواء من جهة تصاعد النزعات النسبية، أو من جهة التوسع المفرط في الطرح ما بعد الحداثي، تبرز أهمية استعادة نموذج ريشنباخ بوصفه مثالًا للفكر الفلسفي المنضبط، الذي لا يستسلم للإبهام اللغوي، بل يبحث عن الوضوح، ولا يقف عند حدود الشك، بل ينخرط في إنتاج معرفة قابلة للاختبار. هكذا تستمر فلسفة ريشنباخ في التأثير على مجمل الفكر الفلسفي الغربي، بوصفها أحد الأعمدة المؤسسة للحداثة العلمية، وأداة عقلية نقدية في مواجهة كل أشكال الغموض والتأويل الفضفاض.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...


المزيد.....




- -كانت تضيء الغرفة بابتسامتها-.. رصاصة تنهي براءة طفلة بعمر 3 ...
- -كمين قاتل- لجنود الجيش الإسرائيلي يُظهر تحولا جديدًا في قتا ...
- الشرع يلتقي علييف في باكو.. وحديث عن لقاء إسرائيلي-سوري على ...
- -كانوا مجرد أطفال-: أم تنعى أولادها الذين قُتلوا في غارة إسر ...
- العلاقات الألمانية الصينية بعد حادثة الليزر
- محادثة في -قمرة القيادة- تشير إلى سبب كارثة الطائرة الهندية ...
- ما حققه نتنياهو وما لم يحققه من زيارة واشنطن
- اجتماع مرتقب في بروكسل يضم وزيري خارجية فلسطين وإسرائيل
- المستوطنون يكثّفون انتهاكاتهم بالضفة وشهيد ثانٍ في رام الله ...
- أميركا تطالب اليابان وأستراليا بتوضيح دورهما إذا خاضت حربا م ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة