أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة














المزيد.....

ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 13:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في ظل تحولات ما بعد الحداثة، شهد مفهوم الهوية ـ سواء الفردية أو الجماعية ـ انزياحًا جذريًا عن مرتكزاته الكلاسيكية، حيث تفككت الأسس الصلبة التي كانت تقوم عليها الهويات المستقرة والمتماسكة، لتحل محلها هويات سائلة، متغيرة، ومفتوحة على احتمالات متعددة. ما بعد الحداثة، بوصفها خطابًا فلسفيًا واجتماعيًا وثقافيًا، لم تكتف بنقد الميتافيزيقا أو تفكيك السرديات الكبرى، بل امتدت لتقويض فكرة الهوية بوصفها جوهرًا ثابتًا، وبدلاً من ذلك، طرحت فهماً تعدديًا للذات، قوامه التشظي والتعدد والتموضعات المؤقتة ضمن فضاءات اجتماعية متغيرة.

في هذا السياق، لم تعد الهوية الفردية تعبيرًا عن كينونة مستقرة، بل باتت تُبنى وتُعاد بناؤها باستمرار، من خلال التفاعل مع الرموز، العلامات، والممارسات الثقافية التي تنتجها الأنظمة الإعلامية، والرقمية، والاقتصادية. وبهذا أصبحت الذات الفردية كيانًا مشروطًا بتمثيلات خارجية، ومفتوحًا على معاني متداخلة يصوغها الاستهلاك، والافتراضات الجندرية، والسياسات العرقية والدينية، والسلطة التقنية. فالهوية لم تعد تعبيرًا عن "ما هو"، بل عن "ما يمكن أن يكون"، وفقًا لما تتيحه السياقات والخيارات اللحظية.

أما الهوية الجماعية، فقد تعرضت هي الأخرى لتفكك كبير. فالمجتمعات التي كانت تؤسس تماسكها على روابط عرقية، أو دينية، أو قومية، وجدت نفسها في مواجهة عالم ما بعد حداثي ينزع نحو الفردنة، ويُعلي من شأن الخصوصيات الهامشية، ويُفرّغ الخطابات الجمعية من مضامينها المعيارية. ساهم هذا التحول في تفكيك مفهوم "نحن" الجماعية، ليحل محله تشظٍّ هوياتي يعيد رسم الحدود بين الأنا والآخر ضمن خرائط جديدة من التفاعل، تُبنى على التفضيلات الثقافية، والتوجهات الرقمية، والانتماءات السيبرانية، أكثر مما تُبنى على الانتماءات العضوية أو التاريخية.

ولعل من أبرز التأثيرات المستقبلية لهذه التحولات هو ما يمكن تسميته بـ"تسييل المعنى الاجتماعي" للهوية، حيث تصبح المجتمعات أقل قدرة على إنتاج رؤى موحدة للذات أو للآخر، وأقل قدرة على صياغة مشروع جماعي متماسك. تتزايد الانقسامات الداخلية، وتتعزز النزعات الانعزالية، ويغدو العيش المشترك أكثر هشاشة في ظل هويات متنافرة، ومتغيرة، وغالبًا متصارعة. ومن جهة أخرى، يؤدي انفتاح الهوية على التأويل والاختيار إلى بروز أشكال جديدة من الانتماء العابر للقوميات والمذاهب، بما يعيد رسم خريطة العلاقات الإنسانية على أسس غير تقليدية.

لكن هذه المآلات لا تقتصر على الجوانب السلبية فقط، إذ إن ما بعد الحداثة تفتح المجال أمام إعادة التفكير في الهوية باعتبارها مشروعًا إبداعيًا ومفتوحًا لا نهائيًا، يتيح للفرد أن يكون أكثر حرية في اختيار من يكون، ويتيح للمجتمعات أن تعيد تعريف نفسها بعيدًا عن الإكراهات التاريخية أو الأطر السلطوية. إلا أن هذا الاحتمال، وإن كان واعدًا، يبقى محفوفًا بالمخاطر، ما لم يُقترن برؤية نقدية قادرة على التوفيق بين تعددية الهويات من جهة، والحاجة إلى التماسك الاجتماعي من جهة أخرى، وإلا فإن العالم سيواجه مستقبلًا مفرطًا في الفردية، تائهًا في تعددية غير قابلة للدمج، تُضعف البنى السياسية والاجتماعية، وتعمق من أزمات الانتماء والمعنى.

في المحصلة، يمكن القول إن ما بعد الحداثة قد أعادت تشكيل مفهوم الهوية من الجذور، فأخرجته من صلابته الكلاسيكية إلى رحابة السيولة والتعدد، لكنها في الوقت ذاته فاقمت من إشكاليات الانتماء والاستقرار والاتساق بين الأفراد والمجتمعات، ما يجعل من التفكير في الهوية ما بعد الحداثية ليس مجرد تمرين فلسفي، بل ضرورة وجودية لمواجهة التحديات الوجودية والمعنوية للعصر الرقمي المعولم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة


المزيد.....




- -اختبأ بحقيبة زميله-.. هروب سجين من سجن فرنسي في حدث نادر لل ...
- مباشر: ماكرون يعلن توجهات دفاعية جديدة في ظل تصاعد التهديدات ...
- بحضور أحمد الشرع ..سوريا توقع اتفاقية مع موانئ دبي بقيمة 800 ...
- لواء إسرائيلي سابق: لا يمكننا السيطرة التامة وحماس تستغل ذلك ...
- فيديو نادر أطلق أحد أشهر ألعاب العالم.. قصة -برنس أوف بيرشيا ...
- أهداف ترامب في أفريقيا
- الآلاف يشيعون شهيدين اغتالهما مستوطنون بالضفة
- إعلام إسرائيلي: نتنياهو دوما يحبط الصفقات و74% من الجمهور يؤ ...
- بدء العملية الرسمية للانتخابات المحلية والتشريعية بالغابون
- لماذا يسعى الشرع لتفكيك العلاقة مع روسيا بشكل عاجل؟


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة