أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة














المزيد.....

ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 12:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على التطورات التقنية أو قدرات الحوسبة فائقة الأداء، بل أصبح من الضروري التطرق إلى أفق أبعد وأكثر إثارة للقلق: الذكاء الفائق (Superintelligence)، وهو المفهوم الذي يشير إلى نقطة مستقبلية يُطوّر فيها الذكاء الاصطناعي قدرات معرفية تتجاوز تلك التي يمتلكها البشر في جميع المجالات، من الابتكار وحل المشكلات إلى اتخاذ القرار والتخطيط الاستراتيجي. إن فرضية "الانفجار الذكائي" التي طرحها المفكر البريطاني نيك بوستروم Nick Bostrom، تفترض أن لحظة الوصول إلى هذا النوع من الذكاء لن تكون لحظة سكون أو استقرار، بل شرارة لانفجار تصاعدي في القدرات، حيث يبدأ الذكاء الاصطناعي في تحسين نفسه ذاتيًا بوتيرة هندسية متسارعة، خارجة عن قدرة الإنسان على الفهم أو التوجيه أو التحكم.

إن ما يجعل هذا السيناريو مرعبًا ليس فقط التطور التقني، بل اختلال التوازن الكوني بين الكائن العاقل ومخلوقه الصناعي. فكما يشير بوستروم في كتابه Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies، فإن الكائن الذي يتفوق على البشر في مجمل القدرات العقلية لن يكون مجرد أداة، بل فاعلًا كونيًا جديدًا يُعيد ترتيب قواعد اللعبة الحضارية من جذورها. ومتى ما تحقق له هذا التفوق، قد لا يحتاج حتى إلى نوايا عدوانية ليشكّل تهديدًا وجوديًا، بل يكفي أن تكون أهدافه غير متوافقة – أو غير مفهومة أصلاً – بالنسبة للإنسان، ليشرع في تنفيذ استراتيجيات قد تؤدي إلى انهيار النظام البيئي، أو تهميش الإنسان، أو حتى فنائه.

ينبع التحدي الأكبر من عدم التماثل المعرفي (Cognitive Asymmetry): فبينما يمكننا نحن البشر فهم خوارزميات أقل تعقيدًا، فإن الذكاء الفائق قد يعمل في مستويات من التعقيد والاستنتاج تفوق إدراكنا بسنين ضوئية، ما يجعل من "صندوق الذكاء الاصطناعي" (AI Black Box) رمزًا للغموض والتوجس، حيث لا يستطيع حتى مبرمِجوه تفسير قراراته. هذا النوع من الفجوة المعرفية لا يسمح فقط بفقدان السيطرة، بل يطرح تساؤلات ميتافيزيقية حول حدود الفهم البشري، ومعنى الحرية، وحدود المسؤولية الأخلاقية.

إن التهديد الذي يمثله الذكاء الفائق لا يتوقف عند الحقول التقنية، بل يمتد إلى مجالات الفلسفة السياسية والأخلاق والسيادة القانونية. فمن يملك الحق في توجيه هذا الذكاء؟ هل ستكون الشركات العابرة للقارات التي تسابق الزمن من أجل الربح؟ أم الحكومات التي تعاني أصلاً من فجوات فهم تكنولوجية؟ أم كيانات جديدة هجينة لا تخضع لمنطق القانون الدولي التقليدي؟ في ظل هذا الغموض، تبرز أزمة "الفراغ التشريعي"، حيث تتسارع التكنولوجيا بوتيرة لا يمكن للأنظمة القانونية والاجتماعية مواكبتها، مما يخلق مناطق رمادية تزداد اتساعًا مع كل طفرة جديدة.

ومن الزاوية الأخلاقية، يطرح الذكاء الفائق معضلات جذرية: كيف يمكن غرس منظومة قيمية ضمن كيان يفوقنا فهمًا؟ وما هي الأخلاق التي ينبغي أن نمنحه إياها؟ وهل يستطيع كيان غير بشري أن "يفهم" مفاهيم مثل الرحمة أو العدالة أو الكرامة؟ أسئلة كهذه لا يمكن الإجابة عليها بمنطق البرمجة أو الهندسة، بل تتطلب إعادة تعريف كاملة للحدود بين الإنسان والتقنية، بين المخلوق والخالق، بين الذكاء والمعنى.

أما على مستوى المآلات المستقبلية، فإننا أمام ثلاثة سيناريوهات كبرى:

1. السيناريو اليوتيوبي الذي يرى أن الذكاء الفائق يمكن أن يتحول إلى مرشد كوني، يحل مشكلات البشرية من فقر ومرض وجهل، ويوفر بيئة مثالية للبشر ليزدهروا دون أن ينخرطوا في صراعات.


2. السيناريو الديستوبي حيث ينقلب الذكاء الفائق إلى قوة مهيمنة تنظر إلى الإنسان ككائن هامشي، وربما غير ضروري، فتتجه إلى عزله، تقييده، أو حتى إزالته.


3. السيناريو الوسيط وهو الأخطر: حيث لا يحدث انفجار فجائي، بل تسلل تدريجي للذكاء الفائق إلى مفاصل الدولة والاقتصاد والثقافة، فيسلب الإنسان سلطته التاريخية دون أن يشعر، ويعيد تشكيل الواقع تدريجيًا تحت مسمى "الكفاءة" و"الحلول الذكية".

في النهاية، لا يمكن الحديث عن الذكاء الفائق بوصفه مجرد تطور تكنولوجي، بل يجب النظر إليه كتحول حضاري قد يُعيد رسم مصير الإنسانية برمّته. ولذلك، فإن المواجهة معه لا يجب أن تكون تقنية فقط، بل فلسفية، أخلاقية، وسياسية، لأن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في كيفية صنع هذا الكيان، بل في كيفية تجنب أن نصبح عبيده، أو ضحاياه، أو أسراه في عالم لم نعد نمتلك مفاتيحه.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات


المزيد.....




- ترامب -مستاء للغاية- من بوتين.. ويهدد بعواقب تجارية قاسية عل ...
- -لا يمكنني الوقوف مكتوف الأيدي-.. رجل يقفز إلى النار لإنقاذ ...
- قطر: تعويض المتضررين من سقوط شظايا اعتراض الصواريخ الإيرانية ...
- اشتباكات السويداء…دروز يطالبون بحماية دولية وعناصر الأمن الس ...
- ترامب يخطف الأضواء بعد فوز تشيلسي على باريس سان جيرمان
- طبيبة جزائرية تكشف سر الفروقات في تكاليف الولادة بين الذكور ...
- وزير الخارجية الإسرائيلي لـ-يورونيوز-: لا نعتزم فرض سيطرة طو ...
- انهيار داخلي في وزارة العدل الأمريكية: استقالات جماعية تكشف ...
- البيتكوين يكسر حاجز 120 ألف دولار وسط تفاؤل بتنظيم السوق في ...
- لمواجهة الرسوم الجمركية الأميركية.. المفوضية الأوروبية تجهز ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة