أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمنة الأوروبية














المزيد.....

العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمنة الأوروبية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 11:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
لقد نشأ العنف الأوروبي الحديث في قلب المشروع الحداثي الذي تبنّى مفاهيم السيطرة والهيمنة والتوسع، مستندًا إلى أسس نظرية وفكرية مكنته من تأسيس نمط وجودي خاص به قائم على إخضاع الآخر وتطويعه ضمن نسق مركزي يُنصّب الغرب معيارًا كونيًا للتقدم والحضارة. فالعنف هنا لم يكن مجرد انحراف سلوكي عارض أو سلوك دفاعي مؤقت، بل كان جزءًا بنيويًا من المشروع الثقافي والسياسي الغربي منذ لحظة انبثاقه في العصر الحديث، مع الكشوف الجغرافية، وصعود الرأسمالية، وبروز الدولة القومية الحديثة. وكان الفكر الأوروبي بحاجة إلى شرعنة هذا العنف عبر سرديات فلسفية وعلمية وأخلاقية تمنحه "حق الهيمنة"، وتبرر "رسالة الرجل الأبيض" في تقويم الشعوب الأخرى.

في هذا السياق، يمكن تتبّع منابع العنف الأوروبي في ثلاث ركائز أساسية:
أولًا، الحداثة الأوروبية التي قنّنت إخضاع الطبيعة والإنسان تحت هيمنة العقل الأداتي، كما شرح ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في كتابهما جدل التنوير، حيث بيّنا كيف تحوّل العقل التنويري إلى أداة للقمع والتشييء والتسلط. هذا العقل، الذي قدّم نفسه كمحرر للإنسان، سرعان ما كشف عن وجهه الاستعماري، إذ استخدم أدوات العلم والتقنية لإخضاع الشعوب المستعمَرة ونهب مواردها وإعادة تشكيل ثقافاتها وهوياتها قسرًا.

ثانيًا، الفلسفة السياسية الليبرالية التي دافعت عن الحرية والمساواة داخل المركز الأوروبي، لكنها مارست نقيضها تمامًا خارج حدوده. فقد أسّس مفكرو التنوير، أمثال جون لوك وروسو وسبينوزا، تصورات لعقد اجتماعي داخلي يحكم المجتمعات الغربية، في حين لم ينكروا – بل أحيانًا دافعوا – عن الاسترقاق والاستعمار والتمييز العرقي ضد غير الأوروبيين. هذا التناقض البنيوي بين القيم المعلنة والممارسات الواقعية هو ما شكّل لاحقًا جوهر المركزية الغربية، حيث تُمنح الحقوق فقط للمواطن الأبيض داخل الدولة الحديثة، بينما يُنظر إلى الشعوب الأخرى كمواد أولية للهيمنة.

ثالثًا، العلمانية الغربية التي حررت الإنسان من وصاية الكنيسة، لكنها أبدلتها بوصاية الدولة والعقل التقني والعلم الإمبريقي، مما أنتج نماذج عنيفة من الحكم والانضباط والسيطرة، كما أوضح ميشيل فوكو في تحليلاته حول "مجتمعات المراقبة" و"السلطة الحيوية". فباسم العلم والتنظيم والتمدّن، سُحقت هويات جماعية بأكملها، وتم إخضاع أجساد البشر لعلاقات قسرية من التصنيف والرقابة والسيطرة، سواء داخل المجتمعات الغربية أو في مستعمراتها.

لقد أدت هذه التراكمات إلى ظهور شكل خاص من المركزية الغربية، لا تُعرّف ذاتها فقط من خلال تفوقها الذاتي، بل أيضًا من خلال إعادة إنتاج الآخر ككائن ناقص، متخلّف، وعنيف بطبعه، يحتاج إلى التدخل الغربي لـ"تمدينه". وبهذا المعنى، أصبح العنف الأوروبي بنية مؤسسة لهذه المركزية، تشتغل على مستوى الثقافة والتاريخ والسياسة والاقتصاد. وتمظهر هذا العنف ليس فقط في الغزو العسكري، بل أيضًا في محو الذاكرة الثقافية للشعوب، وتدمير سردياتها الأصلية، وفرض نماذج الحياة الغربية كنموذج أوحد للحداثة والنجاة.

وإذا كان البعض قد اعتبر أن أوروبا قد تجاوزت هذا العنف بعد الحرب العالمية الثانية مع ولادة الاتحاد الأوروبي ونزعة السلام، فإن الواقع يظهر أن البنية نفسها لا تزال فاعلة ولكن بوسائل أكثر نعومة، كما في العولمة، والنظام المالي الدولي، وشروط "التحديث القسري"، وأشكال "الاستعمار الجديد". ولذلك، فإن المركزية الغربية لا تزال تعيد إنتاج ذاتها عبر أدوات معرفية واقتصادية وتكنولوجية تبدو "محايدة"، لكنها في جوهرها استمرار لتلك البنية المؤسسة على العنف الرمزي والمادي.

إن فهم العنف الأوروبي بوصفه نسقًا تأسيسيًا للمركزية الغربية لا يمكن أن يكتمل دون النظر إلى كيفية توظيف الخطاب، والمؤسسات، والمعرفة، لتطبيع هذا العنف وإضفاء طابع الكونية على التجربة الغربية، وهو ما يستدعي قراءة نقدية جذرية للفكر الحداثي ذاته، واستعادة أصوات المقاومة التي سعت لكشف هذا العنف وتحطيم أسسه الرمزية والمعرفية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...


المزيد.....




- لطفي لبيب في المستشفى.. آخر تطورات وضعه الصحي
- الأردن يواجه -سماسرة الحجز الإلكتروني- بإجراءات جديدة على جس ...
- السويداء تشتعل: اشتباكات دامية تودي بحياة 13 شخصاً على الأقل ...
- حصيلة القتل والدمار والتجويع بغزة منذ العدوان الإسرائيلي
- فرضية تعمّد حرائق الساحل السوري.. شهادات ميدانية ونفي حكومي ...
- صحفي فرنسي: أوروبا فقدت توازنها أخلاقياً وسياسياً بموقفها من ...
- إجراءات للحكومة الأردنية لضبط تجاوزات على جسر الملك حسين
- تفاؤل أميركي بالمفاوضات وحماس والجهاد تتمسكان بشرط إنهاء الح ...
- إسرائيل تهاجم 150 هدفا في غزة.. وسقوط مئات القتلى والجرحى
- بين مساعدي الملك تشارلز وهاري.. ماذا وراء -الاجتماع السري-؟ ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمنة الأوروبية