أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة الإبادة














المزيد.....

الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة الإبادة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 11:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
منذ فجر ما يُسمى "عصر الاكتشافات الجغرافية" في القرن الخامس عشر، لم يكن المشروع الاستعماري الغربي مجرد رحلة اقتصادية أو توسعية بحتة، بل استند إلى سردية ثقافية ولاهوتية غربية معقدة، كان للفاتيكان – باعتباره رأس الكنيسة الكاثوليكية ومركز السلطة الروحية في أوروبا – دورٌ محوريٌ في ترسيخها وشرعنتها. فقد عملت المؤسسة البابوية، لا بوصفها سلطة دينية فحسب، بل بوصفها حليفًا سياسيًا مركزيًا، على إضفاء الشرعية الدينية على عمليات الاحتلال ونهب الثروات وإبادة السكان الأصليين، بدءًا من الأمريكيتين، وصولًا إلى إفريقيا وآسيا، وحتى فلسطين في سياقها المعاصر.

أولاً: براءة الاكتشاف أم مسيحية الإبادة؟ (1493 – 1800)

مع اكتشاف كريستوفر كولومبوس للعالم الجديد عام 1492، سارع البابا ألكسندر السادس في العام التالي إلى إصدار مرسوم Inter Caetera عام 1493، الذي منح بموجبه تاجي إسبانيا والبرتغال "الحق الإلهي" في تملك الأراضي الجديدة واستخدام "أي وسيلة ممكنة" لنشر المسيحية بين شعوبها. هذا المرسوم لم يكن مجرد وثيقة لاهوتية بل كان حجر الأساس القانوني والأخلاقي لما سيُعرف لاحقًا بـ"عقيدة الاكتشاف"، والتي أعطت الغزاة الأوروبيين مبررًا دينيًا وأخلاقيًا لسحق الشعوب الأصلية، ونهب ذهبها وفضتها، وطمس حضاراتها تحت راية "الخلاص الروحي".

كان الفاتيكان شريكًا مباشرًا في هذه الجرائم، ليس فقط عبر شرعنة الغزو، بل من خلال إرسال بعثات تبشيرية ترافق الجيوش الاستعمارية، تمارس "التحوّل القسري" وتُعيد تشكيل الهويات الثقافية للسكان الأصليين وفق النمط المسيحي الغربي. وبهذا الشكل، أصبحت الكنيسة الكاثوليكية جزءًا من آلة الإمبريالية التي مزجت بين الإنجيل والسيف، وبين الخلاص والجريمة.

ثانيًا: الفاتيكان والإمبراطوريات الحديثة – صمت مبارك على الاستعمار (1800 – 1945)

مع صعود الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى – البريطانية والفرنسية والبلجيكية – في القرن التاسع عشر، انتقل الفاتيكان من كونه فاعلًا مباشرًا في عمليات الاحتلال إلى شريك صامت، يبارك ضمنيًا السياسات الاستعمارية دون أن يعارضها، بل غالبًا ما كان يحتفي بـ"نجاحات البعثات التبشيرية" التي كانت تمثل ذراعًا ناعمة من أذرع الاحتلال.

وفي هذا السياق، قامت الكنيسة بدور مزدوج: فهي من جهة عملت على تهذيب ضمير المستعمِر، بإقناعه بأن مهمته "حضارية" و"إنسانية"، ومن جهة أخرى ساعدت على إخماد أي مقاومة ثقافية أو دينية لدى الشعوب المُستعمَرة، من خلال شيطنة الإسلام والأديان المحلية، ووسمها بالبدائية والهمجية.

في الكونغو، مثلًا، رعت الكنيسة الكاثوليكية بعثات تبشيرية دعمت عمليًا جرائم الملك ليوبولد الثاني، الذي قتل أكثر من 10 ملايين أفريقي تحت ذريعة "تمدين البرابرة". كذلك، سكت الفاتيكان عن المجازر الفرنسية في الجزائر، وعن مشاريع التنصير القسري في مدغشقر والفلبين والهند. لقد شكّل هذا الصمت نوعًا من "التواطؤ الروحي" مع الأنظمة الاستعمارية.

ثالثًا: الفاتيكان، الصهيونية، وفلسطين – بين الاعتراف والخذلان (1948 – 2023)

مع دخول القضية الفلسطينية إلى واجهة الصراع العالمي، أصبح موقف الفاتيكان أكثر حساسية، لكنه لم يخلُ من التناقضات. فمنذ النكبة عام 1948، اتسمت مواقف الفاتيكان الرسمية بالتوازن الخطابي، لكنها عمليًا صبت في مصلحة المشروع الصهيوني.

صحيح أن الفاتيكان لم يعترف رسميًا بدولة إسرائيل حتى عام 1993، إلا أن سكوته الطويل عن الجرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين، ورفضه المطالبة بحق العودة أو الاعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين، جعله في موقع "المتواطئ الأخلاقي". لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية قادرة على ممارسة ضغط دبلوماسي وروحي هائل، لكنها اختارت أن توازن مصالحها السياسية مع الغرب، بدلًا من الانحياز الواضح إلى العدالة.

اللافت أن الكثير من رموز الكنسية الكاثوليكية انخرطوا بشكل مباشر في دعم الرواية الصهيونية حول "أرض الميعاد" و"الشعب المختار"، في إعادة إنتاج لمقولات لاهوتية قديمة تم توظيفها لتبرير استعمار الأرض الفلسطينية. حتى زيارات الباباوات للقدس والضفة الغربية ظلت رمزية أكثر منها سياسية، ولم تقترن بمواقف صريحة ضد الاحتلال.

رابعًا: حرب غزة 2023 – صمت كنسي أم اصطفاف مريب؟

مع اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، والتي شهدت حملة تدمير شاملة راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين، تكرّر المشهد: خطاب فاتيكاني فضفاض يدعو إلى "السلام ووقف العنف"، دون أي إدانة واضحة للعدوان الإسرائيلي، أو ذكر لجرائم الإبادة الجماعية، أو الاعتراف بمشروعية المقاومة. هذا الموقف لم يكن مجرد تقصير دبلوماسي، بل هو تمظهر جديد لانحياز تاريخي أعمق، يرى في "الغرب الديمقراطي" حاميًا للحضارة، حتى وإن كانت وسائله إبادة جماعية.

الأكثر خطورة، أن الصمت الفاتيكاني قد قوبل بتواطؤ لاهوتي من بعض الشخصيات الكنسية التي حاولت تبرير العدوان الإسرائيلي على أنه "حق في الدفاع عن النفس"، متجاهلة مبدأ النسبية، وسياق الاحتلال الطويل، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت في وضح النهار.

لقد كان الفاتيكان، عبر قرون متعاقبة، شاهدًا وفاعلًا في بناء السردية الغربية التي شرعنت نهب الشعوب المستعمرة، وباركت تحويل الإنجيل إلى سلاح. هذه السردية استندت إلى ثلاثية متماسكة: التفوق الديني، التفوق الثقافي، والتفوق العرقي. ومع كل جريمة كبرى ارتكبها الغرب باسم "الحضارة"، كان هناك لاهوت خلفي يمنحه الغفران قبل أن يطلبه.

إن إعادة النظر في هذا التاريخ المؤلم تتطلب مساءلة أخلاقية عميقة، ليس فقط لدور الفاتيكان، بل لكل المؤسسات الدينية التي تواطأت مع الهيمنة الغربية. فالتواطؤ مع الظلم – وإن تم بلباس مقدس – لا يُنتج سوى خراب روحي ودمار إنساني طويل المدى.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلمنة النقدية في فكر محمد أركون: بين تحرير المقدّس ونقد ال ...
- هندسة السمعة في عصر الذكاء الاصطناعي : من الإدراك البشري إلى ...
- ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية


المزيد.....




- ريانا تُحوّل السجادة الزرقاء إلى عرض أزياء عائلي وتستعرض حمل ...
- فضيحة محرقة الجثث.. رماد مزيف وجثث متعفنة تشعل حالة صدمة بال ...
- مصر.. أول تعليق من السيسي على تصريحات ترامب حول أزمة سد النه ...
- الجيش السوري يدخل مدينة السويداء وإسرائيل تستهدفه
- أعلى محكمة ألمانية ترفض شكوى بشأن هجوم مسيرة أميركية باليمن ...
- المغرب: فرصة ثانية.. عودة الشباب الى مقاعد الدراسة
- هل دخلت قوات الأمن السورية إلى مدينة السويداء؟
- العراق.. مريض يعزف على العود خلال عملية جراحية!
- الجيش الإسرائيلي يقصف القوات الحكومية السورية في السويداء وا ...
- ما تأثير انسحاب حزب يهدوت هتوراه من الائتلاف الحاكم في إسرائ ...


المزيد.....

- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي
- مغامرات منهاوزن / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة الإبادة