أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن














المزيد.....

ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8403 - 2025 / 7 / 14 - 10:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تُعد نظرية "الصفر اللغوي" واحدة من النظريات الحديثة التي أثارت نقاشًا معمقًا في حقل اللسانيات وفلسفة اللغة، وهي ترتكز على فكرة أن الصمت أو الغياب أو التوقف عن النطق قد يحمل دلالة لغوية أكثر تأثيرًا وبلاغة من اللفظ نفسه. ويُعرف الصفر اللغوي بأنه ذلك الموضع في الخطاب الذي يتعمد فيه المتكلم حجب التعبير أو إسقاطه، لا لعدم القدرة على النطق، بل لأن غيابه يؤدي وظيفة معنوية أبلغ من حضوره. هذا المفهوم يتجاوز الدلالة التقليدية للغة بوصفها مجرد أداة لنقل المعنى، ليؤسس لرؤية ميتالغوية ترى في "اللا-قول" مستوى رفيعًا من البيان، حيث يكون الغياب ذاته نوعًا من الحضور المكثف.

عند النظر في النص القرآني من زاوية هذه النظرية، يتضح أن الصفر اللغوي قد استُعمل بدقة إعجازية في عدد من المواضع، ليؤدي دورًا دلاليًا وبيانيًا بديعًا لا يمكن للفظ المباشر أن يضاهيه. فالقرآن، بنظامه الفريد في الحذف والسكوت والإضمار والتقدير، لا يلجأ إلى "الصفر اللغوي" بوصفه عجزًا عن البيان، بل بوصفه أرقى درجات البيان ذاته. ذلك أن ما يُحذف في القرآن لا يُحذف عبثًا، بل لأن في حذفه تفعيلًا لطاقات التأمل والتفكر والتدبر لدى المتلقي، وهي الغايات الكبرى للخطاب القرآني.

من الأمثلة المعبرة عن ذلك، ما ورد في قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ..." (المائدة: 20)، فالسياق يوحي بموقف تاريخي عظيم، لكن القرآن لا يذكر تفاصيل ذلك الموقف بشكل مباشر، بل يترك فراغًا سرديًا يُشبه "الصفر اللغوي"، يدعو القارئ لاستحضار معاني النعمة والتفكر في تجلياتها دون الحاجة إلى بيان مباشر. فالصفر هنا يستدعي المعنى بدلاً من تقديمه، ويمنح المتلقي سلطة تأويلية لا يتيحها الخطاب التقريري.

كذلك في قوله تعالى: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (الفجر: 22)، نجد غيابًا تامًا لأي وصف لماهية "المجيء"، وهو تغييب مقصود يمنع الوقوع في التشبيه أو التجسيم، ويكتفي بالتصوير الشعوري للهول والجلال. هذا التغيب ليس ضعفًا في التعبير، بل تعبير بصيغة "الصفر اللغوي"، حيث يصبح الصمت عن التحديد هو قمة البلاغة. وقد عبّر علماء البلاغة قديماً عن هذه الفكرة حين قالوا: "ما سُكت عنه في القرآن أبلغ مما قيل". وهذا السُكوت، في ضوء نظرية الصفر اللغوي، هو سلوك بلاغي مفعم بالدلالة.

إن الإعجاز القرآني لا يكمن فقط في المفردات والتراكيب والأساليب، بل يتجلى أيضًا في "ما لم يُقل"، في ذلك البياض الفاصل بين الكلمات، وفي اللحظات التي ينسحب فيها اللفظ ليترك المعنى يتكامل في عقل القارئ دون إكراه. فالصفر اللغوي هنا هو دعوة للتدبر العميق، وتحريك لملكة التأمل، وإشراك للعقل في بناء المعنى، وهي سمة لا تتوافر في أي نص بشري بهذه الكثافة والدقة.

من هنا، يمكن القول إن نظرية الصفر اللغوي تضيء جانبًا عظيمًا من جوانب الإعجاز البياني للقرآن الكريم، حيث يعمل الحذف والسكوت والتقدير كاستراتيجيات دلالية تفتح أفق المعنى بدلًا من أن تغلقه. وقد تنبه المفسرون والبلاغيون القدامى، وإن لم يصيغوها بمصطلح "الصفر"، إلى هذه الظاهرة، كما في دراساتهم عن الحذف والإيجاز والكناية والتورية، لكن النظريات اللسانية المعاصرة منحتها مصطلحًا علميًا يسمح بإعادة قراءة النص القرآني بعين حداثية تجمع بين العمق البياني والصرامة المنهجية.

إن نظرية الصفر اللغوي تكشف لنا أن السكوت ليس نقيضًا للكلام في النص القرآني، بل هو من أبلغ أنواعه. فكلما سكت القرآن عن شيء، فتح بابًا أوسع للتأويل، وأشار بإعجاز إلى أن المعنى أكبر من أن يُحصر في لفظ. وبذلك، فإن هذا الصمت المحسوب ليس مجرد فراغ بلاغي، بل هو امتلاء بالمعنى، واكتمال للبيان، وامتداد للأفق الروحي للنص.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...


المزيد.....




- قانون الإيجارات المعدل في مصر: تهديد صامت للسلم الاجتماعي وم ...
- محاولة جديدة لكسر الحصار.. سفينة مساعدات تبحر من صقيلية نحو ...
- العيد الوطني الفرنسي: استعراض عسكري تحت عنوان -المصداقية الع ...
- الهند: جمعيتان للطيارين ترفضان نتائج التحقيق في تحطم طائرة - ...
- كيف يبدو مخيم نور شمس بعد 6 أشهر من التوغل الإسرائيلي؟
- 6 أسئلة بشأن اشتباكات السويداء في سوريا
- أميركا قد ترحل مهاجرين إلى -بلدان ثالثة- بعد 6 ساعات من إخطا ...
- صفقة دفاعية ضخمة.. فيديو يعرض خوذة ميتا التي أثارت البنتاغون ...
- أصوات من غزة.. حرمان الأطفال من عامين دراسيين بسبب الحرب
- اشتباكات السويداء.. وزير الداخلية السوري يكشف -السبب والحل- ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن