أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار














المزيد.....

الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 11:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
نظرية الكسب عند الأشاعرة تُعد من أبرز المحاولات الكلامية التي سعت إلى التوفيق بين جلال الإرادة الإلهية الشاملة وعدل الله من جهة، وبين حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله من جهة أخرى، وهي واحدة من أكثر المسائل التي أثارت جدلًا فلسفيًا ولاهوتيًا في الفكر الإسلامي، خاصة بين الأشاعرة والمعتزلة. لقد كان السياق العقدي الذي نشأت فيه هذه النظرية مشحونًا بالصراع بين الاتجاهات التي كانت ترى في الله فاعلًا لكل شيء على الإطلاق، بما في ذلك أفعال العباد، كالجبرية، وبين من اعتبر أن الإنسان حرٌّ تمامًا في اختياره وفعلِه، كالمعتزلة، وهو صراع لم يكن مجردًا أو أكاديميًا، بل ارتبط بعمق بطبيعة التصور الإسلامي للعدل، والثواب، والعقاب، والنبوة، والشر، والتكليف.

الأشعري، مؤسس المدرسة الأشعرية، انطلق في تطوير نظرية الكسب من حرصه على تأكيد قدرة الله المطلقة، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بإرادته وعلمه وخلقه، وفي ذات الوقت رفض الانزلاق إلى الجبر المحض الذي ينفي مسؤولية العبد، ويجعل أفعاله مجرد آلية حتمية. فابتدع مصطلح "الكسب" ليحلّ به هذا التوتر المعقّد. الكسب، وفق التصور الأشعري، هو أن الله يخلق الفعل في العبد، لكن العبد يكتسبه من خلال القُدرة الحادثة والمقارنة للفعل، أي أن العبد هو محل الفعل، وهو الذي يقوم به، لكنه لا يخلقه. الله هو الخالق الحقيقي للفعل، أما العبد فله فقط نسبة ذلك الفعل إليه من حيث الكسب لا الخلق. فالعبد يفعل، لكن فعله مخلوق لله، وهو كاسب لا فاعل بالاستقلال.

هذه الصيغة الدقيقة والمربكة في آن واحد أثارت انتقادات واسعة من خصوم الأشاعرة، وعلى رأسهم المعتزلة، الذين رأوا في هذا التفسير تهربًا من المسؤولية الأخلاقية الحقيقية، وتهوينًا من حرية الإنسان واختياره. المعتزلة، الذين جعلوا من العدل أحد أصولهم الخمسة، تمسكوا بأن الإنسان هو خالق أفعاله بالقدرة التي وهبها الله له، وأن التكليف لا يستقيم إلا على هذا الأساس. فإذا لم يكن العبد حرًا بالمعنى الكامل، فلا معنى للثواب أو العقاب، ولا مكان للعدالة الإلهية. فالقول بأن الله يخلق الفعل والعبد يكتسبه – في نظرهم – مجرد تلاعب لفظي لا يغيّر من حقيقة الجبر شيئًا. كيف يكون العبد مسؤولًا عن فعل لم يخلقه؟ وإذا كان الله هو الذي خلق الكفر والطاعة في الناس، فلماذا يعاقب البعض ويثيب الآخرين؟ بل كيف يُفهم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إذا كانت أفعال الناس في الحقيقة ليست إلا نتاجًا لإرادة الله وفعله المباشر؟

لقد رأى المعتزلة أن مفهوم الكسب لا يضيف شيئًا جديدًا على المستوى الفلسفي أو الكلامي، بل يزيد المسألة تعقيدًا وغموضًا. واعتبروه "جبرًا مقنّعًا"، يعيد إنتاج نفس المآزق التي وقع فيها الجبرية، وإنْ بلغة أكثر تهذيبًا واعتدالًا. فالقول بأن الإنسان "فاعل غير خالق" لا يعني في النهاية سوى أنه آلة تنفذ ما قُدّر لها، وما دام الله هو خالق الفعل وحده، فقد زال الفارق بين الطائع والعاصي، وبين الصالح والطالح، إلا بقدر ما شاء الله لا بقدر ما اختار الإنسان.

ورغم ذلك، فإن الأشاعرة ظلوا متمسكين بنظريتهم، معتبرين أن فيها إنصافًا للجانبين معًا: سيادة الله وحرية العبد. وهم يؤسسون موقفهم على أن قدرة العبد حادثة، ومقارنة للفعل، وليست منشئة له. أي أن الله يُوجد في العبد القدرة على الفعل في لحظة الفعل ذاته، فيقترن الفعل بقدرة العبد، لكن لا تنشأ عنه. والفعل هنا يُنسب للعبد على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة الخالقة. فالمخلوق لله يُنسب إلى العبد اكتسابًا لا خلقًا. وبهذا يتفادى الأشاعرة الوقوع في الجبر المحض، دون أن يمنحوا الإنسان استقلالًا وجوديًا عن إرادة الله.

غير أن هذه المقاربة – رغم رصانتها المنطقية ضمن النسق الأشعري – ظلت تُواجَه بنقد مستمر حتى من داخل بعض الأوساط السنية القريبة، إذ بدا للبعض أن الكسب مجرد لفظ لا يُفسر شيئًا بل يُغطي على المعضلة الحقيقية، وهي: كيف يُكلّف الإنسان بما ليس تحت إرادته المستقلة؟ وإذا كانت الأفعال كلها من خلق الله، أفلا تكون أفعال الشر والظلم والكفر من فعله أيضًا؟ وكيف يُجمع ذلك مع وصفه بالعدل والحكمة والرحمة؟

هذا المأزق النظري يكشف عن عمق الإشكال الذي كانت تحاول النظرية معالجته. فقد كان عليها أن تحمي صفتي القدرة والعدالة الإلهية معًا، دون أن تنفي حرية الإنسان، ولا أن تُطلقها بشكل يهدد التوحيد. الأشاعرة اختاروا الطريق الوسط: الحفاظ على التوحيد الخالص، والعدالة بالتكليف، وربط الفعل بالعبد اكتسابًا لا خلقًا. لكنّ هذا الحل لم يُرضِ خصومهم، ولم يُجب على جميع الأسئلة التي فرضها العقل الفلسفي والكلامي في العصور الذهبية للإسلام.

وهكذا، فإن نظرية الكسب تظل واحدة من النماذج المعبّرة عن تعقيد العلاقة بين الحرية والقدر، بين الفعل والإرادة، بين الإنسان والله. لم تكن مجرد تمرين ذهني، بل إجابة وجودية على سؤال: كيف أكون حرًّا والله قد كتب كل شيء؟ وبين من قال "الله خلق أفعالي"، ومن قال "أنا أخلق فعلي"، جاءت الأشعرية لتقول: "الله خلق فعلك، وأنت كسبته"، أي أنك لست مجبورًا، ولا خالقًا، بل فاعل تحت قدرة الله، ومُحاسب في حدود ما كُلفت به، دون أن تُنسب إليك القدرة المستقلة المطلقة. وهنا يكمن جوهر التصور الأشعري: الله كلّي القدرة، عادل، والعبد مسؤول في إطار كسبه لما أُتيح له فعله، لا خلقه لما لم يُقدّر له.

ومع استمرار النقد، ظلت هذه النظرية حاضرة في التراث الكلامي الإسلامي، ليس فقط كنص عقائدي، بل كمرآة فلسفية عكست القلق الروحي العميق الذي يلازم الإنسان وهو يحاول أن يفهم ذاته في مرآة الإله، ويوازن بين عظمته كخالق، وضعفه كخليفة. فسواء أقنعت أو لم تُقنع، فإنها تعبّر عن المحاولة الأشعرية الجريئة لصياغة جواب في معترك جدلي لا تزال أصداؤه تتردد حتى اليوم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة الأوروبية المعاصرة وتحديات العصر الحديث: بين العلمنة ...
- الأمن القومي في زمن السيادة الرقمية: الذكاء الاصطناعي والخوا ...
- الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأورو ...
- الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة ال ...
- العلمنة النقدية في فكر محمد أركون: بين تحرير المقدّس ونقد ال ...
- هندسة السمعة في عصر الذكاء الاصطناعي : من الإدراك البشري إلى ...
- ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع


المزيد.....




- الرئاسة السورية تتسلم تقرير لجنة التحقيق في أحداث عنف الساحل ...
- إيران تجري محادثات نووية مع الترويكا الأوروبية
- إسرائيل تجهز خطة بديلة لـ-المدينة الإنسانية-
- حافلات حكومية تدخل إلى السويداء لإجلاء المصابين والمحتجزين
- مسلحون من عشائر البدو في سوريا: -نلتزم بوقف إطلاق النار مع ا ...
- عريضة شعبية تجمع أكثر من مليون توقيع لألغاء قانون يُجيز مبيد ...
- إسرائيل ترفض تمديد تأشيرة مسؤول أممي ندد بقتل مجوّعي غزة
- فوكس نيوز: إسرائيل تبحث مع دول إنزال مساعدات جوا في غزة
- انتهاكات ومشاهد مروعة من -كابوس السويداء- الدموي
- مساعدات إسرائيلية للدروز في سوريا.. وطريف يناشد ترامب


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار