أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأوروبي














المزيد.....

الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأوروبي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 11:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تُعدّ الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة من أغنى الحقول الفكرية التي أثرت في تشكيل الوعي الإنساني وصياغة منظومات القيم والمعرفة في الحضارة الغربية والعالم بأسره. فمنذ انبثاقها في أعقاب عصر النهضة، مثّلت هذه الفلسفة حركة جذرية في نقد السلطة التقليدية، وخاصة سلطة الكنيسة، وانطلقت تبحث عن بدائل معرفية وأخلاقية جديدة تستند إلى العقل والمنهج العلمي، وتؤسس لرؤية حديثة للإنسان والعالم. وقد كان لهذا التحول المعرفي العميق أثرٌ بالغ في إعادة صياغة مفهوم الذات والموضوع والوجود، وفي إطلاق موجات متتالية من التحولات الفكرية التي ما تزال تتفاعل حتى اليوم.

في المرحلة الحديثة، برزت العقلانية كإحدى أبرز ركائز الفلسفة الأوروبية، حيث أكد فلاسفة مثل ديكارت وسبينوزا ولايبنتز على أن العقل هو الأداة الجوهرية للوصول إلى الحقيقة، في مقابل نزعة التجريبية التي دافع عنها لوك وهيوم وباركلي، والذين رأوا أن التجربة الحسية وحدها هي مصدر المعرفة، مما ولّد صراعًا خصبًا بين المنهجين، توّجه إيمانويل كانط بمحاولة تركيبية جسورة تجمع بين العقل والتجربة، ليؤسس بذلك الفلسفة النقدية كمنهج لمعرفة حدود العقل ومجالات اشتغاله. وفي ذات السياق، تطورت أفكار التنوير التي أولت اهتمامًا بالغًا للعقل والحرية والتقدم وحقوق الإنسان، وألهمت الحركات الإصلاحية والثورات الاجتماعية والسياسية، لتشكّل خلفية فكرية متينة للحداثة الأوروبية.

ومع تحولات القرن العشرين، ظهرت تيارات فلسفية معاصرة شكلت انقطاعات مع المشروع الحداثي، وأعادت مساءلة الكثير من مسلّماته. ففي ظلّ الحروب العالمية، وانهيار اليقينيات الكبرى، برزت الفلسفة الوجودية لتؤكد على قلق الإنسان، حريته، مسؤوليته، ومعاناته الوجودية في عالم خالٍ من المعنى، كما جسّد ذلك كل من نيتشه وهايدغر وسارتر وكامو. وعلى نحو موازٍ، جاءت الفينومينولوجيا لتعيد الاعتبار إلى التجربة الإنسانية كما تُعاش مباشرة، دون وساطة مفاهيم مسبقة، مسلطة الضوء على الوعي بوصفه أصل كل المعاني. وفي المقابل، انشغلت الفلسفة التحليلية بتفكيك اللغة والمفاهيم من منظور منطقي، معتبرة أن كثيرًا من المشكلات الفلسفية تنشأ عن غموض لغوي أكثر مما تنبع من الواقع ذاته، وهو ما سعى إليه راسل وفيتغنشتاين في تحليلاتهم الدقيقة.

وقد جاء تيار ما بعد الحداثة ليشكّل قطيعة نقدية حادة مع كل السرديات الكبرى التي حكمت الفكر الغربي، معلنًا موت الإله، ونهاية الحقيقة المطلقة، وتشظي المعنى، وتشكيكًا في السلطة والمعايير، حيث قام مفكروه من أمثال فوكو ودريدا وليوتار بتفكيك الخطابات المهيمنة، مؤكدين على التعددية والاختلاف، ومعيدين رسم خريطة التفكير الفلسفي وفق مقولات النسبية واللايقين. هذا في الوقت الذي تطورت فيه أيضًا الفلسفات الاجتماعية والسياسية المعاصرة التي اشتبكت مع قضايا العدل، والهوية، والسلطة، والعولمة، كما في أعمال هابرماس ورولز، وظهر اهتمام متزايد بأخلاقيات البيولوجيا التي تفاعلت مع تسارع الاكتشافات في علم الوراثة والطب، إلى جانب الفلسفة البيئية التي أعادت النظر في علاقة الإنسان بالطبيعة.

لكن هذا الزخم الفلسفي لم يكن بمعزل عن التحديات الكبرى التي فرضها العصر الراهن، والتي باتت تضع الفلسفة الأوروبية أمام اختبار مصيري. فهناك أزمة معرفية متفاقمة في تحديد الأساسيات التي يمكن أن تُبنى عليها المعرفة في ظل التشتت بين العقل والتجربة واللغة والتقنية، إضافة إلى تعقيد العلاقة بين الذات والموضوع في عالم أصبح فيه الإنسان مهددًا بالتشييء والاختزال تحت وطأة الآلة، والرقمنة، والعولمة. كما أن تفكك المرجعيات الميتافيزيقية التقليدية، بعد إعلان نيتشه عن "موت الإله"، جعل من الصعب بناء منظومات قيمية وأخلاقية متماسكة، مما ولّد حالة من القلق الوجودي والضياع المعنوي في الفضاء ما بعد الحداثي.

وفي ظل تزايد تأثير العولمة وتراجع الحدود الثقافية، تواجه الفلسفة مهمة معقدة في إيجاد توازن بين الكوني والمحلي، وبين التنوع الثقافي والهوية الإنسانية المشتركة. أما التطورات العلمية والتكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي، فتفرض تساؤلات عميقة حول ماهية الوعي، وحدود الذكاء، وإمكان وجود آلة واعية، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله البرمجية. كما أن التقدم في العلوم العصبية يثير جدلاً حول حرية الإرادة، وأسس الأخلاق، ومدى تأثير البيولوجيا على السلوك، في حين تؤدي ثورات التقنيات البيولوجية كالهندسة الوراثية إلى إعادة النظر في مفاهيم الطبيعة، والحدود الأخلاقية للتدخل في الحياة.

ولا تقف التحديات عند هذا الحد، إذ تعاني الفلسفة من تراجع موقعها في الفضاء العام، حيث يطغى الخطاب العلمي والتقني على الخطاب التأملي، مما يستدعي من الفلاسفة إعادة تبيئة الفلسفة داخل الحياة اليومية، وإثبات ضرورتها في فهم الأزمات الاجتماعية والبيئية والوجودية. كما يفرض هذا الواقع ضرورة تجديد أساليب تدريس الفلسفة وجعلها أكثر جاذبية وتفاعلية، قادرة على إلهام الأجيال الجديدة وتدريبها على التفكير النقدي العميق.

إن الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، برغم كل ما واجهته وتواجهه، تظل خزّانًا فكريًا هائلًا، ومنبعًا لا ينضب للأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان في رحلته لفهم ذاته وعالمه. إنها ليست مجرد معرفة نظرية بل هي ممارسة عقلية وروحية تُسائل المسلمات، وتزعزع الركود، وتفتح آفاقًا جديدة للحرية والمعنى، الأمر الذي يجعلها أكثر من ضرورية في عصر تتسارع فيه التحولات وتتضخم فيه التحديات.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة ال ...
- العلمنة النقدية في فكر محمد أركون: بين تحرير المقدّس ونقد ال ...
- هندسة السمعة في عصر الذكاء الاصطناعي : من الإدراك البشري إلى ...
- ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...
- تحولات الاقتصاد السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي : نهاية العم ...
- الذات والعدم : كيركيجارد والجذور الوجودية للفكر الحديث
- الهوية الأوروبية وصناعة المركز: جذور التفوق وبنية الهيمنة
- قوة الأخلاق في زمن التشظي: الدولة المسلمة بين الواجب والرسال ...
- الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي


المزيد.....




- سوريا وإسرائيل تتوصلان لوقف لإطلاق النار بدعم أردني تركي
- استطلاع: غالبية الإسرائيليين يؤيدون صفقة تبادل شاملة وإنهاء ...
- رويترز: الكونغو ستوقع بالدوحة اتفاق لإنهاء القتال مع المتمرد ...
- أنغام تفتتح مهرجان العلمين بعد تجاوز أزمتها الصحية
- صاروخ يمني يربك إسرائيل: تعليق الملاحة في مطار -بن غوريون- و ...
- الأمين العام لحزب الله يُحذّر من -ثلاث مخاطر- ويؤكد: جاهزون ...
- انتهاكات بحق العشائر البدوية في السويداء بعد اتفاق انسحاب ال ...
- بعد تشخيص مرضه.. 3 تغييرات منتظرة في نمط حياة ترامب
- تفاؤل أميركي بقرب التوصل لاتفاق بشأن غزة
- موسكو توقف مسافرة أميركية روسية بسبب مسدس في حقيبتها


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأوروبي