الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 20:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في نسيجها السردي المتشابك، لا تكتفي رواية «حركة تنقلات» لمحمد عبد السميع نوح بأن تكون مجرد حكاية عن قرية مصرية تحمل اسم «كفر هِس» بمحض المصادفة، بل تتجاوز ذلك لتصبح لوحة سردية مركبة، ترسم بأنامل دقيقة معالم مجتمع يتآكل من داخله تحت وطأة السلطة، التي لا تظهر هنا كقوة خارجية مفروضة فحسب، بل كمرض مزمن يتغلغل في نسيج الحياة اليومية، يشوهها ويعيد تشكيلها بصمت، بينما تستمر دورة الحياة في قرية تبدو، في لحظات كثيرة، كأنها محاصرة في كابوس لا ينتهي. هذه الرواية لا تروي قصة بالمعنى التقليدي، بل هي عملية حفر أدبية، تقشر طبقات الواقع الريفي المصري لتكشف عن العفن الذي يختبئ تحت سطح المألوف، ذلك السطح الذي يبدو هادئًا، متماسكًا، لكنه في حقيقته مشروخ، متصدع، يحمل في طياته تناقضات السلطة والدين والإنسان.
الزمن في هذا النص ليس مجرد خلفية، بل هو بطل خفي يتحكم في إيقاع السرد. لا يسير الزمن هنا بخطية مريحة، كما في الروايات التقليدية، بل يتشظى، يتداعى، يتداخل، كأنه شبكة عنكبوتية معقدة تجمع بين الحاضر والماضي في لحظات متشابكة. السارد لا يكتفي برواية الأحداث، بل يعيد بناء الزمن كما يعيد النحات تشكيل مادته الخام، يكسرها، يعيد ترتيبها، ليكشف أن ما كان يبدو متماسكًا في الذاكرة الجماعية للقرية لم يكن سوى وهم هش، مبني على طبقات من القهر والخداع. هذا التفكيك الزمني ليس مجرد تقنية سردية، بل هو انعكاس لطبيعة السلطة نفسها في «كفر هِس»؛ فهي سلطة لا تبدأ ولا تنتهي، بل تتجدد، تتحور، تتخفى خلف وجوه مختلفة، لكنها تحافظ على جوهرها القامع. من العمدة رسلان إلى العمدة عتمان، تبدو السلطة كأنها شبح يطارد القرية، يغير أقنعته لكنه يظل ثابتًا في قدرته على إخضاع الجميع.
في قلب هذا النص، يبرز عتمان، العمدة، ليس كشخصية نمطية أو كاريكاتيرية للسلطة الريفية، بل كرمز متجسد للظلم الذي لا يموت. عتمان ليس مجرد فرد يمارس السلطة، بل هو تجسيد لفكرة السلطة ذاتها، فكرة تتجاوز الزمن والمكان، تتغذى على نفسها، وتتجدد حتى في لحظات موتها الظاهري. موته، الذي قد يبدو للوهلة الأولى كلحظة انتصار أو خلاص، ليس سوى وهم آخر، إذ سرعان ما يكتشف القارئ أن عتمان ليس شخصًا يمكن أن يُهزم بسهولة، بل هو نظام، عقيدة، وهم جماعي يرفض الزوال. حتى في قبره، يبقى عتمان حاضرًا، ليس كحاكم، بل كتذكير دائم بأن السلطة لا تموت بالجنازات، بل تظل تتربص، تنتظر لحظة جديدة لتعود بثوب جديد.
في مواجهة عتمان، يقف الشيخ مبروك، الذي قد يبدو للوهلة الأولى كشخصية ثانوية، لكنه في الحقيقة العمود الفقري لنظام القهر في القرية. الشيخ مبروك ليس مجرد رجل دين، بل هو العقل المدبر الذي يمنح السلطة شرعيتها، يبرر استبدادها باسم الدين، ويغطي قبحها بعباءة الورع. تحوله إلى «لص قبور» ليس مجرد لمسة ساخرة من الكاتب، بل هو تعبير رمزي عميق عن تحالف السلطة والدين، ذلك التحالف الذي يفرغ المقدس من معناه، ويحيله إلى أداة للإخضاع. الشيخ مبروك، بهذا المعنى، هو الوجه الناعم للقهر، الوجه الذي يجعل الظلم مقبولًا، بل ومباركًا، في عيون المقهورين أنفسهم. إنه يمثل تلك القدرة المرعبة للسلطة على تسخير المعتقدات لخدمة مصالحها، مما يجعل مقاومته أصعب بكثير من مقاومة العمدة نفسه.
أما علوان، فهو الشخصية التي تحمل في طياتها تناقضات الإنسان العادي، الذي ليس بطلًا بالمعنى الكلاسيكي، ولا منقذًا يحمل شعلة الثورة، بل هو إنسان مثقل بالماضي، متردد، ممزق بين رغبته في العدل وخوفه من المجهول. عودته إلى القرية ليست عودة منتصر، بل هي عودة ذاكرة، ذاكرة تحمل في طياتها جروح الماضي وآمال الحاضر. علوان لا يغير موازين القوى في القرية بشكل مباشر، لكنه يكشف عن عمق الخلل فيها، يثير تساؤلات حول إمكانية التغيير في مواجهة نظام راسخ. هذا التوتر بين الرغبة في التغيير والخوف منه هو ما يجعل علوان شخصية مركبة، إنسانية، بعيدة عن النمطية، فهو لا يقدم حلولًا جاهزة، بل يعكس صراع الإنسان مع نفسه ومع مجتمعه.
فاطمة، من ناحية أخرى، هي الشخصية التي تجسد التناقض الأنثوي في المجتمع الريفي. ليست مجرد خادمة العمدة، ولا مجرد حبيبة علوان، بل هي رمز للمرأة المسحوقة التي تقاوم، بطريقتها الخاصة، في قلب النار. جسدها المستباح، وكرامتها المهددة، وعاطفتها المكبوتة، كلها تجتمع لتصنع منها مرآة تعكس واقع المرأة في مجتمع يستغلها ويحتقرها، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع أن يتجاهل تأثيرها. فاطمة هي العنصر المحرك، الذي يربك النظام الاجتماعي، يخلخل توازنه، حتى وإن لم يكن ذلك بقصد واضح أو خطة مدروسة. إنها تجسد تلك القوة الخفية التي تكمن في المقهورين، تلك القدرة على التحدي حتى في لحظات الهزيمة.
لغة الرواية نفسها هي إحدى أبرز نقاط قوتها. إنها لغة لا تقدم تنازلات، لا تسعى لإرضاء القارئ أو استجداء عواطفه، بل تمضي في نسج هجاء مقنع، يجمع بين السخرية الحادة والحكمة العميقة. هذه اللغة تتحدث بصوت شيخ الحارة، راوية المقاهي، الذي لا يخجل من وصف القبح، ولا يتردد في إطلاق النكات القاتلة التي تكشف زيف المجتمع. إنها لغة مقاومة، تستخدم السخرية كسلاح لتفكيك أبهة السلطة، وتستخدم الحكايات الشعبية كوسيلة لإعادة تعريف الواقع. في كل جملة، هناك تواطؤ ضمني مع القارئ، كأن اللغة تقول له: «أنت تعرف هذا العالم، لا تتظاهر بالجهل، ولا تدع البراءة».
«كفر هِس» نفسها ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي فضاء رمزي، مسرح للصراعات الإنسانية، مختبر لتشريح السلطة وتأثيراتها. هي مصر الصغيرة، حيث يتحول الدين إلى أداة للقمع، وحيث تصبح الجنازة فرجة، والنعش يرقص بدلاً من أن يُبكي. المشهد الجنائزي في الرواية، بكل تفاصيله المرعبة والساخرة، هو ذروة رمزية تعكس انهيار الأخلاق الجماعية في المجتمع. حين تتحول الجنازة إلى مولد، وحين يصبح الموت مجرد طقس خالٍ من المعنى، يكون المجتمع قد وصل إلى نهايته الأخلاقية، لكنه يواصل الحياة كما لو أن شيئًا لم يحدث.
التناص في الرواية لا يأتي كاستعراض ثقافي، بل كجزء لا يتجزأ من نقد الوعي الشعبي. الإشارات إلى أعمال أدبية مثل «الكروان» و«زينب» أو إلى شخصيات مثل طه حسين ليست مجرد زخرفة أدبية، بل هي محاولة لتفكيك الذاكرة القومية، لتذكير القارئ بأن هذه النصوص، التي شكلت جزءًا من وعيه الثقافي، لم تكن كافية لتحريره. بل على العكس، أصبحت، مع مرور الزمن، جزءًا من القيد، جزءًا من تلك الرواسب التي تحافظ على استمرارية القهر.
النهاية، كما يليق برواية من هذا الطراز، ليست خاتمة تقليدية. لا تقدم الرواية انتصارًا واضحًا، ولا تسقط السلطة بشكل نهائي، بل تترك القارئ في لحظة معلقة بين الأمل والخوف. الأطفال ينظفون، النساء يوزعن القرص، والعمدة، رغم موته، لا يزال حيًا في قبره، لكنه لم يخرج بعد. هذا المشهد الهجائي-التفاؤلي يعكس صدق الرواية: إنها لا تزيف الواقع باسم الأمل، ولا تستسلم لليأس. بل ترسم لحظة هشة، قابلة للانهيار أو للولادة، لحظة تعكس تعقيد الواقع الإنساني.
محمد عبد السميع نوح، من خلال «حركة تنقلات»، يقدم عملًا أدبيًا لا يُقرأ مرة واحدة، بل يتطلب عودة متكررة، تأملًا عميقًا، وانفتاحًا على السخرية والألم في آن. إنها رواية تنتقل بسلاسة بين السخرية والحزن، بين الواقعي والحلمي، بين السياسي والصوفي، لتعيد إلى القارئ وعيه السياسي، ليس عبر الخطابة المباشرة، بل عبر التفاصيل الصغيرة التي تتراكم لتصنع ثورة هادئة: زغرودة في جنازة، لص ينبش قبرًا بورقة، عمدة يرفض الموت. هكذا، تصبح الرواية وثيقة عنا جميعًا، عن مجتمعات لا تنهار سلطتها بالقوانين، بل بالتعرية، بالسخرية، بكشف هزل القمع. إنها رواية تعيد تعريف الحراك، ليس كانتقال من مكان إلى آخر، بل كانتقال من وعي إلى آخر، من الصمت إلى الغضب المكتوم، من الاندهاش أمام السلطان إلى السخرية منه. وفي النهاية، إنها رواية لا تكتفي بقول الحقيقة، بل تفضح، بكل جرأة، كيف قبلنا الكذب طويلًا، وكيف يمكننا، ربما، أن نبدأ في رفضه.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟