أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - أمل عايد البابلي بين اعترافات الشعر وهمس النثر















المزيد.....

أمل عايد البابلي بين اعترافات الشعر وهمس النثر


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 12:05
المحور: سيرة ذاتية
    


في صمت الجنوب العراقي، وتحديدًا في قضاء جبلة من محافظة بابل، ولدت أمل عايد البابلي، لتغرس أولى خطواتها على ترابٍ خصبٍ بالشعر، وثقيلٍ بالحكايات. لم تكن الطفولة في مدارس "المغرب المختلطة" و"ثانوية المكاسب" مجرد مرحلة دراسية، بل كانت أولى تجليات العلاقة بين اللغة والوجدان، حيث راحت تكتب الحروف كما لو أنها تنحت صوتها الخاص من بين زحام الأصوات.
كانت البداية خجولة، لكن واثقة، بين دفاتر الأطفال، وقصصهم، وتلك المسابقات المدرسية التي لا يُعوَّل على نتائجها كثيرًا، لكن أمل عايد جعلت منها منصة لتجريب أولى رعشات القصيدة. وما بين كلية العلوم، حيث درست الحياة بشقها البيولوجي، وكلية التربية حيث غاصت في علم النفس، كانت تحفر في روحها مجازًا شعريًا لم يُكتَب بعد.
في عام 2015، انطلقت تجربتها الأولى بنشر مجموعة "لا أتقن الاعتراف"، وكأنها تضع القارئ منذ العنوان أمام معضلة شعرية وجودية: هل الشعر اعتراف؟ وهل تكتب المرأة لتقول أم لتخفي؟ وسرعان ما تبين أن أمل عايد لا تبحث عن إجابات بقدر ما تصوغ الأسئلة ببلاغة الأنثى الشاهدة والكاتبة معًا.
أعادت طباعة هذه المجموعة عام 2017، لتؤكد أن الشعر لا يموت حين يُطبع، بل حين لا يُعاد اكتشافه. ولم تقف تجربتها عند هذا الحد، بل توالت المجموعات تباعًا: "وسيلة أخرى للعدم" (2019)، "وهم أزرق" (2020)، "رأس بلا أبجدية" (2022)، وأخيرًا "قل لبابل ألا تأتي" (2023)، وكل واحدة منها تمثل خطوة في بناء عالم شعري متفرد، عالم تتناغم فيه هشاشة الذات مع قسوة الواقع، ويُنسَج عبره خطاب أنثوي لا يستجدي الاعتراف بل يفرض حضوره الجمالي والوجودي.
لقد وجد النقاد في شعر أمل عايد البابلي مادة خصبة للقراءة والتحليل، إذ كتب عنها الأستاذ سعد المظفر بتقدير بالغ، مبرزًا خصوصية نبرتها الشعرية، ووصفتها الناقدة التونسية فتحية دبش بأنها "صوت مختلف" يحمل بصمته في مشهد شعري تعوّد على الضجيج. أما الدكتور جاسم خلف الياس، فسلّط الضوء على بنيتها الدلالية المركبة، ورأى في أعمالها انفتاحًا عميقًا على الذات والآخر. وأشاد الشاعر جبار الكواز بجرأتها التعبيرية وخروجها من نمطية القول الشعري. في حين كتب أحمد المالكي، الذي أصدر لها أكثر من مجموعة، مؤكدًا نضج تجربتها وإخلاصها للنص. كما كان لأوس حسن، والدكتور أحمد جاسم الخيال، وإحسان العسكري، قراءاتهم التي فتحت أفقًا نقديًا أوسع لأشعارها.
وقد تجاوز أثرها حدود التلقي المحلي، ليترجم إلى الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والفارسية، والهندية، فيما دخل شعرها بوصفه مادة أكاديمية في رسائل جامعية، كما في جامعة ديالى التي تناولت ضمن رسالة ماجستير تجربة الشعر النسوي بعد 2003، وفي جامعة ذي قار التي اختارتها ضمن أطروحة دكتوراه.
ولعل أبرز ما يُذكر من الدراسات عنها، هو الكتاب النقدي الذي صدر عام 2022 بعنوان قصيدة النثر العراقية: شعر أمل عايد البابلي – دراسة تطبيقية للباحث حامد هندي، الذي رأى فيها تجسيدًا لما يمكن تسميته بـ"القلق الأنثوي المعاصر"، حيث تسعى الشاعرة إلى تفكيك الأبجديات الجاهزة، وتكتب رأسها الشعري "بلا أبجدية".
في شعر أمل البابلي، لا تطل بابل كرمزٍ ماضوي فحسب، بل كجرحٍ قائم، ونداء دائم، ومدينة تتكثف فيها خيبات النساء وآمالهن، وربما كان عنوان مجموعتها "قل لبابل ألا تأتي" ذروة هذا الاستحضار الشعري المؤلم. انها لا تكتب الشعر بوصفه استعراضًا لغويًا، بل ككائنٍ حيّ يُجالد الوحشة، ويُضمد به نسيج الذات المتشظية. لهذا، كان حضورها في ملتقيات داخل العراق وخارجه، امتدادًا طبيعيًا لصوت شعري صادق، لا يهادن، ولا يتكلف.
وما تزال، رغم ما نشرت وشاركت وكتبت، تحمل في مكتبتها مجاميع لم تُطبع بعد، كأنها تترك نافذة الأمل مفتوحة، والشعر مستمرًا بوصفه كينونةً ومشروعًا لا يكتمل.
من شعرها قصيدتها "خللٌ أزلي"وهي نص نثري يتسم بكثافة شعورية عالية، ويتكئ على بنية سردية ذات طابع اعترافي، تشتبك فيها الأنا الشاعرة مع سلسلة من الرموز العائلية والاجتماعية والدينية، لتشكّل رؤية وجودية قاسية تنزع القناع عن العالم والذات معًا.
منذ السطر الأول "أنا ابنة ليلة ساخرة" تُدخلنا الشاعرة إلى فضاء التهكم الأسود، حيث السخرية لا تأتي من بهجة أو خفة، بل من عبثية الوجود ومأساويته. المفارقة تكمن في التسمية: ليلة ساخرة، لكنها أنجبت ابنة لأبوين على سرير بارد، وكل منهما يدس في الآخر غضبه النحيف نارًا. هذا التكوين الأسري القائم على الجفاء والصراع لا يوحي بولادة عاطفية، بل بتفجّرٍ داخلي، كأن الذات ولدت من صراعٍ لا حب فيه، ومن جنسٍ لا يحمل معنى الحياة بل امتهانها.
واللافت في القصيدة أن الشاعرة تبني هويتها من النبذ: شتيمة، ضحكة بائسة، دمعة متسول، معطوبة الجسد، خلل أربك النسل الأول. هذا التراكم الرمزي يرسّخ صورة الذات بوصفها منتجًا معطوبًا لعالم فاسد. هي ليست مولودًا بل خطأ وجودي، أشبه بعطل في نظام الخلق، وبهذا تضعنا أمل عايد أمام خطاب أنثوي وجودي حاد، يتجاوز البوح العاطفي المعتاد في بعض تجارب قصيدة النثر النسوية، إلى مساءلة أصل الخلق والوراثة والمكان والسلطة الأبوية.
وتستخدم الشاعرة رموزًا دينية (ناقوس كنيسة، دمعة تساقط من نخلة الجيران، بحثت عن الله في دائرة الخبز) لكنها تفرغها من طابعها القدسي التقليدي، وتعيد توجيهها باتجاه تأكيد القطيعة بين الإلهي والإنساني، وكأنها تقول: الإيمان نفسه تاه وسط الجوع، والدمع، والحروب الأهلية. مشهد ناقوس الكنيسة الذي يهز نخلة الجيران يُستحضر بروح جنوبية عراقية، تستدعي التداخل بين الرموز الدينية والمكانية، لكنه يفضي إلى دمع سخّي، لا إلى خلاص.
وفي ختام القصيدة، تبلغ الشاعرة ذروة خطابها التصادمي في قولها:
أنا وجه امرأة في الماء
يدور في صلب أبي
قبل الميلاد في غرفة عرسه الأزلي
أنا خلل أربك النسل الأول
في عالم أشبه بمرحاض كبير
فالصورة هنا بالغة التمرّد: الوجه في الماء ليس صورة رومانسية، بل صورة متحوّلة، متأملة، قلقة، ترتبط بصلب الأب، لا بالأم، وتدخل في صميم الخلق والوراثة الذكورية. ثم تأتي الجملة الأخيرة، الصادمة، لتلخّص رؤية الشاعرة للعالم بأنه مكان قذر، خانق، عشوائي — مرحاض كبير، بكل ما تحمله العبارة من عنف لفظي واحتقار رمزي.
وهذه القصيدة ليست مجرد صرخة نسوية، بل هي شتيمة وجودية من ذاتٍ تفكك العالم من حولها وتعيد صياغته بلغة الحرائق واليأس، لا لتبكي، بل لتعرّي. انها تكتب هنا بذات مأزومة، لكنها واعية، تحمل أدواتها التعبيرية بمهارة، وتطوّع اللغة لتكشف عن هشاشة الأصل وفظاعة الاستمرار.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحمد الخيّال شاعرٌ يمشي في ظل القصيدة
- إبراهيم خليل ياسين قلبٌ يخطُّ القصيدة ويحكي الحكاية
- إبراهيم الجنابي شاعرُ الأرضِ والهواء ومراكبُ الحلم
- شمران الياسري...راوي السخرية الحزينة وصوت الفلاحين
- في ذكرى انتفاضة معسكر الرشيد حسن سريع... أيقونة نضالية لا تت ...
- ركن الدين يونس عاشق الكلمات المتوهجة
- محمد سالم البيرماني شاعر الغربة والبرهان
- الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب فيلسوف الفيزياء ورائد الحرف الع ...
- فائق الخليلي قاصٌّ منفىً وسردٌ من ضوء الجرح
- علي جواد الطاهر صوت النقد النابض بين التراث والحداثة
- ستّار خضير… قامة نضالية شامخة
- عبد المجيد الماشطة الحِلّيُّ الذي نَفَذَ إلى لُغَة الإنسان
- الشيخ يوسف كركوش سادن الذاكرة الحِلِّيّة وأحد أعلام التأريخ ...
- الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود
- قارئ الطين: طه باقر حين نطقت الأرض باللغة السومرية
- ريام الربيعي حين يكتب الجمال أنوثته شعراً
- صبري الحيدري الناقد الذي رأى في الإهداء مرآة للنص
- الدكتور سامي سعيد الأحمد راوي ذاكرة الحضارات
- الدكتور صباح نوري المرزوك عاشق الحلة ومؤرّخ وجدانها
- حسين علوان عينٌ على بابل وقدمٌ في لغة العالم


المزيد.....




- ترامب -مستاء للغاية- من بوتين.. ويهدد بعواقب تجارية قاسية عل ...
- -لا يمكنني الوقوف مكتوف الأيدي-.. رجل يقفز إلى النار لإنقاذ ...
- قطر: تعويض المتضررين من سقوط شظايا اعتراض الصواريخ الإيرانية ...
- اشتباكات السويداء…دروز يطالبون بحماية دولية وعناصر الأمن الس ...
- ترامب يخطف الأضواء بعد فوز تشيلسي على باريس سان جيرمان
- طبيبة جزائرية تكشف سر الفروقات في تكاليف الولادة بين الذكور ...
- وزير الخارجية الإسرائيلي لـ-يورونيوز-: لا نعتزم فرض سيطرة طو ...
- انهيار داخلي في وزارة العدل الأمريكية: استقالات جماعية تكشف ...
- البيتكوين يكسر حاجز 120 ألف دولار وسط تفاؤل بتنظيم السوق في ...
- لمواجهة الرسوم الجمركية الأميركية.. المفوضية الأوروبية تجهز ...


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - أمل عايد البابلي بين اعترافات الشعر وهمس النثر