أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - قارئ الطين: طه باقر حين نطقت الأرض باللغة السومرية














المزيد.....

قارئ الطين: طه باقر حين نطقت الأرض باللغة السومرية


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 12:04
المحور: سيرة ذاتية
    


في أعماق الطين، حيث تسكن الحكايات القديمة وتلوذ الآلهة بالنقوش، انحنى رجل بصبر النبوة وفضول العارف، يقرأ ما لا يُقرأ، ويستخرج من بين الحروف المسمارية ما خبأه الزمن من أسرار الإنسان الأول. ذاك هو طه باقر، العالم الذي لم يكتفِ بأن يكون منقبًا عن الآثار، بل جعل من كل كسر فخاري سرديةً، ومن كل رقم مسماري حكمةً، ومن كل رُقيمٍ سطورًا تحيي أممًا بادت.
ولد في الحلة سنة 1912، في حضن الفرات الذي تنعكس فيه ظلال بابل، وكأن الجغرافيا كانت تمهّد لصبيّها طريقًا نحو التاريخ المدفون تحت قدميه. نهل العلم في العراق، ثم حمل شغفه شرقًا وغربًا، حتى استقرت به المعرفة في جامعة شيكاغو، حيث بدأ طه باقر رحلته مع اللغة الصعبة، لغة الطين والحجارة والنقوش، لغة الحضارات التي صمتت آلاف السنين بانتظار قارئ فطن.
لكن طه باقر لم يكن مجرد عالم آثار. لقد كان شاعر الطين وراوي الأساطير، ذلك الذي أعاد "جلجامش" إلى الحياة، لا بترجمة جامدة، بل بنص أدبي ينبض بحزن الخلود وقلق المصير. لقد منح للملحمة روحًا عربية دون أن يفقدها جوهرها الرافديني، وأيقظ في ذاكرة العراقيين أن لهم مكانًا أول في بدايات الإنسان.
في المواقع الأثرية الكبرى من أور إلى نينوى، وقف طه باقر بين الأنقاض كأنه يسمع همس الملوك وأصوات الكهنة. قرأ الطقوس في معابد سومر، وفكّ ألغاز الشرائع في ألواح حمورابي، ورأى في النقوش المهشّمة خيوطًا تشكل نسيج هوية العراق العميقة. ولذلك لم يكن عمله محصورًا في التنقيب فحسب، بل أسس قسم الآثار في جامعة بغداد، وعلّم أجيالاً من الطلبة كيف ينظرون إلى التربة لا باعتبارها مادة خام، بل سجلاً للكرامة والعبقرية الإنسانية.
امتدت إنجازاته من المتحف العراقي إلى المجمع العلمي، ومن المجلات المتخصصة إلى مؤلفاته الرصينة، مثل مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ومقدمة في أدب العراق القديم والمرشد إلى مواطن الآثار، وكلها تشهد على موسوعية فكره وسلاسة قلمه. لم يكن ينقل المعلومات بل ينفخ فيها الحياة، وكان يكتب لا لصفوة الأكاديميين فقط، بل لعامة القرّاء الذين أراد لهم أن يأنسوا بحضارتهم كما يأنس الابن بحكايات الجد.
يرى فيه المؤرخ عبد الأمير الورد "رمزًا للنهضة العلمية التي عرفها العراق في منتصف القرن العشرين"، ويضيف: "طه باقر لم يكن موظفًا في الدولة الأثرية، بل حاملًا لرسالة إنقاذ وطني لما تبقى من تراث العراق المطمور". أما الباحث فوزي رشيد، أحد أبرز تلامذته، فقد كتب عنه: "كان أستاذًا فذًّا، لا يكتفي بتلقين المعلومات، بل يثير في الطالب روح التساؤل، ويعلمه كيف يفكر مثل عالم آثار لا مثل ناقل معلومات".

ويذكر الدكتور سامي سعيد الأحمد، وهو من المؤرخين الكبار في تاريخ العراق القديم، أن طه باقر "أول من أعاد للسومريين صوتهم في العربية، وأعاد للعربية قدرتها على أن تنقل أساطير الرافدين دون أن تفقد سحرها القديم".
رحل طه باقر في العام 1984، لكن أثره لا يزال يتردّد في كل نقاش علمي عن حضارة الرافدين، وفي كل محاولة لإحياء ذاكرتنا التاريخية. لقد كان هو قارئ الطين الذي استخرج من الأرض لغة الأجداد، وبعث فينا وعيًا بأننا لسنا عابرين في هذا المكان، بل نحن ورثة حضارات عظيمة، تنتظر منّا أن نرتقي إلى مجدها.
طه باقر... اسمٌ يُذكر لا كصفة مهنية، بل كمرآة لتاريخ العراق، وعينٍ رأَت ما عجز عن رؤيته غيره، وقلبٍ نبض بعشق الرافدين، وعقلٍ استحضر الأزمنة السحيقة ليصنع بها مستقبلًا معرفيًّا لا يموت.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ريام الربيعي حين يكتب الجمال أنوثته شعراً
- صبري الحيدري الناقد الذي رأى في الإهداء مرآة للنص
- الدكتور سامي سعيد الأحمد راوي ذاكرة الحضارات
- الدكتور صباح نوري المرزوك عاشق الحلة ومؤرّخ وجدانها
- حسين علوان عينٌ على بابل وقدمٌ في لغة العالم
- أحمد الناجي مؤرخ الذاكرة ومثقف الحلة المتجدد
- جعفر هجول شاعر مترحل بين الغربة والعشق
- الناقد الذي عبر الظل أمين قاسم خليل
- أحمد سوسة ضميرُ العلمِ ومسافرُ الزمان في خرائط الأرض وذاكرة ...
- خالد الحلّي شاعر المنفى وصوت الطفولة البعيد
- قراءة في قصيدة -النهر والمقصلة- للشاعر موفق محمد
- جعفر الكوّاز حاملُ الهوى ومفهرسُ الذاكرة
- الدكتور عدنان الظاهر سيرة حياة عالم كيميائي مميز
- عبد الإله كمال الدين... العابر بين الخشبة والمكتبة
- أديب كمال الدين شاعر الحرف ومتصوف المعنى
- الدكتور وليد جاسم الزبيدي شاعر الذاكرة والمناسبات
- قاسم عبد الأمير عجام الناقد الذي قتلته الكلمات الحية
- الدكتور علي الربيعي ذاكرة المسرح العراقي
- حسين السلطاني.. الشاعر الذي ظلمه المجتمع
- عادل الياسري.. وردة عراقية نزفت شعراً


المزيد.....




- مشاهد تخطف الأنظار لأشجار معمرة على قمة جبلية في سلطنة عُمان ...
- هل وافقت إيران على إنهاء الحرب مع إسرائيل؟
- -بعدما وبخها-.. ترامب: إسرائيل لن تهاجم إيران وطياروها سيلقو ...
- هكذا فاجأ ترامب كبار مسؤوليه بإعلان وقف إطلاق النار بين إيرا ...
- قمة لحلف الناتو لرص صفوف الحلف واسترضاء ترامب
- ترامب -يفجّر مفاجأة- بوقف لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل.. ...
- أكثر فعالية وأقل كُلفة من القُبة الحديدية: ما هي منظومة الشّ ...
- إيران: تزايد القمع خلال الحرب تحت غطاء -مطاردة الجواسيس-
- بلدة قصرنبا اللبنانية.. موطن الورد ومائه
- التحول العظيم في العالم ونظرية النهايات


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - قارئ الطين: طه باقر حين نطقت الأرض باللغة السومرية