أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - حسين السلطاني.. الشاعر الذي ظلمه المجتمع















المزيد.....

حسين السلطاني.. الشاعر الذي ظلمه المجتمع


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 11:27
المحور: سيرة ذاتية
    


كان حسين السلطاني واحدًا من أولئك الذين لم يأتوا إلى الحياة ليرتبوا فراشهم على هوى الناس، ولا ليتقنوا فن الصعود على أكتاف الآخرين. وُلد في ناحية الإسكندرية التابعة لمحافظة بابل سنة 1965، ولم تكن تلك الأرض التي خرج منها سوى نطفة للقصيدة، ونواة لروح قلقة ستظل تبحث عن سماء تخصّها وحدها، حتى لو لم يعترف بها أحد.
درس هناك، في تلك البلدة الصغيرة، ثم شدّ الرحال إلى بغداد ليغرس نفسه في كلية الفنون الجميلة – قسم المسرح، وكأنه أدرك أن الحياة مسرح لا يمنح البطولة للأنقياء. تخرج عام 2003، متأخرًا عن قطار العمر، لكنه لم يكن يومًا يعير الزمن أهمية، فقد اختار أن يحيا على هامش الرتابة، في قلب الفوضى، حيث تثمر القصائد لا الخطط.
كتب الشعر كما يكتب الجائع عن الرغيف، والنقد المسرحي كما يكتب العاشق عن الحبيبة المستحيلة. لم يكن طموحه المجد الشخصي، بل كان يبحث عن متعة القول، لذة الكلمة، متعة الإبداع المجرد. نشر شعره ومقالاته في الصحف والمجلات، لكنه لم يُزاحم على كرسي، ولم يركض في سباق، عاش متصعلكًا على طريقة من سبقوه من الشعراء الذين خيّروا الفقر على التورط في الزيف، والضياع على أن يكونوا جزءًا من القطيع.
حتى حين عمل في قناة "الحرية" معدًا لبرنامج ثقافي، لم يكن له من اسمه نصيب، فقد أغلق المكان كما أغلق المجتمع قلبه عنه. لم يأخذ حسين السلطاني حقه، لا لأن الحظ خانه، بل لأن الحياة كثيرًا ما تخون مَن لا يراوغها.
أصدر مجموعته الأولى "نافر آنت كأيل جميل" في بغداد عام 1993، ثم "حينما كنت في العلا" عام 1999، وكأن العلا التي كتب عنها لم تكن أرضًا بل حالة ذهنية، حلمًا يتسلقه هارب من سافل الواقع. وفي عام 2010، أطلق مجموعته "كلمات سأتركها على الأرض"، عنوان يصلح لوصف حياته كلها، إذ ترك كلماته فعلاً على الأرض، بينما مضى خفيفًا، كما جاء.
وأصدر كتابًا في النقد المسرحي، وما إن رحل حتى صدر له ديوان أخير بعنوان "كاف يا وثري" عن منتدى الإسكندرية الأدبي، وكأنه كان يودع المكان الذي لم ينصفه حيًا.
في السادس من تموز عام 2015، انطفأ حسين السلطاني صعقًا بالكهرباء، وكأن الحياة أرادت أن تذكرنا بأنها لا تمنح الشهداء إلا ميتات غريبة. رحل آخر الصعاليك كما عاش: واقفًا، نقيًا، ينظر إلى الأعلى، حيث لا ضجيج ولا صفقة ولا انتهاز.
عندها فقط، تذكّره الجميع. كتبوا مراثيهم، تسابقوا في رثائه، اعترفوا بفرادة صوته، وصدق قلبه، ودفء وجوده. (ايلاف الثلاثاء 07 يوليو 2015. حسين السلطاني.. الشاعر الذي مات مهملاً بإرادته- جبار العتابي).
قال عنه الدكتور خزعل الماجدي: "مات واقفًا وهو ينظر إلى الأعالي.. إلى حيث كان. فقدت الأوساط الثقافية العراقية علماً مهماً من أعلامها، الشاعر الذي أعرفه عن كثب مخلص الروح ونظيف القلب واللسان واليد، وقبل ذلك الإنسان النبيل المتواضع الذي يقطرُ خُلقاً رفيعاً."
أما الدكتور حسين القاصد فنعاه بكلمات دامعة: "كلنا ظلمناك يا صديقي.. لك الرحمة أبا علي أيها المؤذي جداً الآن.. لم تعد مزعجًا لأنك صرت مؤذيًا جداً برحيلك."
وقال الشاعر والناقد علي حسن الفواز: "حسين السلطاني حالة وعي مغدور، ولحظة صفاء لا تتكرر في حياتنا المغشوشة.. طيب حدّ السذاجة، وواع حدّ المشاكسة."
أما الروائي علي حسين عبيد فخاطبه بندم موجع: "لم ننصفك وأنت على قيد الحياة.. الآن نتبارى على رثائك ونشر صورك بعد أن رحلت عن هذه الدنيا.. يا لبؤسنا."
وهكذا، لم يكن حسين السلطاني شاعرًا فقط، بل كان مرآةً لما نحن عليه. ظلمناه لأنه لم يكن يشبهنا. لأنه كان نقيًّا، طيبًا، مشاكسًا بلا ضغينة، واضحًا بلا مراوغة. مات كما يولد الكبار: في صمت، لكن ضوءه لا ينطفئ. مات، فاستيقظ ضمير الثقافة على أنين الغياب. لكنه، كما كل الكبار، غفر لنا في وصاياه الموزعة على قصائده... وتركنا، لنكتب الآن عنه، ونفهم متأخرين كم كنا صغارًا أمام كبره.
من شعره قصيدته (لا تلمسوني) التي تمثل رحلة الذات بين المعصية والأمل يضعنا الشاعر أمام تجربة ذاتية عميقة تتأرجح بين التمزق الداخلي والبحث عن خلاص وجودي. تبدأ القصيدة بنداء صادم ونافر: "لا تلمسوني"، وهو طلب لا يخلو من وجع وكبرياء، وكأنه إعلان بأن صاحب الصوت قد مرّ من التجربة وتجاوزها، لكنه لا يريد من أحد أن يُفسد لحظة عزلته الأخيرة، تلك العزلة التي كثيرًا ما تكون مأوى الشعراء المتعبين.
تتحرك القصيدة في مساحات رمزية تنقل القارئ من الأمل الطويل إلى المعصية، ومن نشيد العصافير إلى جنة النار، ومن الناي إلى مكر البنات، في بناء شعري يفيض بالتناقضات ويؤسس لعالم مقلوب، فيه تتفكك الثوابت وتنهار الحدود بين الخير والشر، بين الجمال والهلاك. وفي واحدة من أجمل استعارات القصيدة، يقول الشاعر: "أزقّ العصافير نشيد الحنطة".
هذه الصورة تحتشد بدلالات الخصوبة والسلام، لكنها في الوقت ذاته تقترح نوعًا من الإبداع الفطري، حيث يتغذى الكائن الحي على الأغنية بدل الغذاء، كأنما الروح هي جوهر الوجود لا الجسد. تتوالى المقاطع بعد ذلك في انحدار درامي، حيث تعيش الذات حالة من الضياع والانمحاء: "وأنا في النسيان أنداح..."
هنا نلمس حضورًا واضحًا لليأس، لكنه ليس يأسًا ساكنًا، بل متحركًا، منفتحًا على التأمل والملاحظة الدقيقة لما حوله من تشوهات وقسوة، يراها الشاعر في "أرامل يلمعن أسنان النحيب" وفي "العابرين يهيئون الخوف لصبر الحقائب"، مشاهد تقطر مرارة واغترابًا.
غير أن القصيدة، على الرغم من انغماسها في سوداوية الواقع، لا تخلو من لحظة إشراق شفيف حين يستحضر الشاعر صورة العراق الحضارية:
"طفلاً أراه يضفر النهرين ويغسل بابل القديمة"
وهي لحظة شعرية مفعمة بالحنين والرغبة في التطهر التاريخي، وكأن الماضي العظيم هو الوتر الأخير الذي ما زال يشد الذات إلى الحياة، قبل أن تنفرط إلى العدم.
ذروة القصيدة تأتي في الاعتراف الموجع:
"آه يا أمي كدت أنتحر..."
ولكن، وفي لحظة إنسانية خالصة، يمنعه من ذلك خجله من الطيور، وذكرى أبيه، وقميصه، بل وحتى صحبته للأشياء الصغيرة. هذه التفاصيل الدقيقة تكشف عن رقة داخلية تتخفى خلف قناع من الألم، فالشاعر ليس بائسًا بالكامل، بل متألم على نحو نبيل.
وتنتهي القصيدة بتأمل فلسفي يضع للحياة معنى حتى في الغياب:
"لي عمل ولي وجود إذا رحلت!"
كأنما الشاعر يرى أن الخلود يتحقق بالفعل لا بالجسد، وأن أثر الإنسان هو ما يصنع وجوده الحقيقي.
ان قصيدة "لا تلمسوني" ليست مجرد بوح شعري، بل نص وجودي يحتشد بالتوترات والرموز والدلالات المفتوحة. إنها أشبه برحلة داخل نفسٍ أنهكها السؤال والانتظار، لكنها ما زالت تؤمن بأن هناك معنى ما، حتى لو بدا العالم حولها بلا معنى. وتلك، في جوهرها، وظيفة الشعر الكبرى: أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه من خراب الوجود.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عادل الياسري.. وردة عراقية نزفت شعراً
- علي الحمداني... شاعر تفتّحت في قلبه حدائق الشعر والوفاء
- حمزة فيصل المردان شاعر يتقاطع فيه النبض العمودي والهمّ الحدا ...
- حامد الشمري: شاعر العمود ومترجم القصيدة العالمية
- الدكتور جليل كمال الدين المُترجِم الذي أهدى القارئ العربي دف ...
- جبار الكواز.. صائغ الطين وحارس الذاكرة البابلية
- الدكتور علي إبراهيم قارئ السرد العراقي وناقد الغربة الحيّة
- أحمد زكي كاظم الأنباري بين ضوء الكلمة ونبض التاريخ
- الشاعر عبد الهادي عباس طاقة شعرية متجددة
- ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار
- قراءة في قصيدة - لون لا تعرفه الشمس-
- قراءة في رواية المتألم المتأمل
- الشاعر مالك مسلماوي.. أصالة الحرف وتجريب القصيدة
- القاضي زهير كاظم عبود كفاحه العلمي ونزاهته في القضاء
- عبد علي حسن... واعادة تشكيل الوعي السردي
- المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي
- ذو النون أيوب يدافع عـــــــن الرصافــي
- رحلة الشرق الأوسط
- الناقد باقر جاسم محمد وآراؤه النقدية
- العتابا والأبوذية الجذور والفروق وأسبقية الظهور


المزيد.....




- سموتريتش لنتنياهو: لن أسمح باتفاق جزئي.. ومن الحماقة تخفيف ا ...
- الدفاع الألمانية: كييف ستسلم أولى أنظمة الصواريخ البعيدة الم ...
- -ابتعد أيها الخاسر-.. قراءة شفاه تكشف ما دار بين ماكرون وزوج ...
- الخارجية الإيرانية تنفي مزاعم لـ-رويترز- حول احتمال تعليق ال ...
- وزير الخارجية الإيطالي: على أوكرانيا استخدام أسلحتنا داخل أر ...
- مراسلنا في لبنان: قوة إسرائيلية تتوغل جنوبي البلاد والجيش ال ...
- السنغال.. طرد السفير الإسرائيلي من حرم جامعة في دكار وسط هتا ...
- هل باتت تسوية النزاع الأوكراني قريبة؟
- حماس: توصلنا لاتفاق مع ويتكوف على اتفاق لوقف إطلاق النار
- فيديو.. السقا يؤكد انفصاله عن زوجته


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - حسين السلطاني.. الشاعر الذي ظلمه المجتمع