أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علي محيي الدين - ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار














المزيد.....

ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8339 - 2025 / 5 / 11 - 12:20
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تأتي مذكرات مارغو كرتيكار، المعنونة في ترجمتها العربية بـ "ذات زمن في بغداد"، بوصفها شهادة حية على لحظة عراقية كانت تموج بالتحولات العاصفة. فهذه الصفحات ليست مجرد سيرة شخصية، بل سردية نابضة لجيل كامل عاش التعددية ثم شهد تصدعها، تنطلق من ذاكرة فتاة يهودية عراقية نشأت في قلب بغداد، قبل أن تبدأ المدينة – والوطن – في الانغلاق على ذاته، ويصبح الماضي عبئًا والهوية خطرًا.
ومارغو تكتب بأسلوب بسيط صافٍ، يخلو من التكلّف، لكنه مشبع بالوجع والتأمل. لا تتحدث عن ذاتها باعتبارها ضحية، بل باعتبارها جزءًا من عالم تمزق. تنقل يومياتها المدرسية، علاقاتها بأقرانها المسلمين والمسيحيين واليهود، لهجة أمها، وأحاديث أبيها عن الدولة، وهي تفعل ذلك دون استعلاء أو لوعة مفتعلة، بل بحنين خافت يحمل بين طياته نقدًا مريرًا لما آلت إليه الحال.
تقول عن تلك الطفولة البريئة التي لم تكن تعرف الفروق الدينية:
"في مدرستي، لم يكن أحد يسأل الآخر: هل أنت مسلم أم يهودي أم مسيحي؟ كنا نغني للنشيد ذاته ونقف إجلالًا للعلم نفسه. لم أشعر بأن هناك فرقًا بيني وبين صديقتي زينب حتى بدأ الكبار يهمسون بأشياء غريبة."
في هذه المذكرات، تتحول بغداد من مدينة إلى كائن حي، أمّ حنون طُعنت في ظهرها. فحين تصف الأزقة، والمدارس، والكنس، والأسواق، فإنها لا تسترجع الأماكن فقط، بل ما كانت عليه الروح العراقية من فسحة وتداخل وطمأنينة، قبل أن تعصف بها التحولات السياسية التي لم تميز بين الهوية والانتماء، فجعلت من كل اختلاف شبهة.
ولفهم خلفية هذه المذكرات، لا بد من استحضار تاريخ اليهود العراقيين، الذين يعدّون من أقدم الجماعات اليهودية في العالم، جذورهم ضاربة في أرض الرافدين منذ أكثر من ألفي عام. وفي القرن العشرين، خصوصًا في عهد الملكية، لم يكونوا أقلية مهمشة، بل شريحة فاعلة في الاقتصاد، والثقافة، والتعليم، بل حتى في السياسة.
لكن هذا الحضور بدأ في الانحسار بعد نكبة فلسطين عام 1948، حين صارت القومية الصاعدة تنظر إلى اليهود بوصفهم "قنابل موقوتة"، لا مواطنين. فُرضت القيود، وبدأت الاعتقالات، واشتدت وتيرة التضييق، إلى أن جاء التهجير الجماعي بين عامي 1950 و1952، والذي اقتلع أكثر من مئة ألف يهودي عراقي من جذورهم، في واحدة من أوسع عمليات الإفراغ السكاني في الشرق الأوسط الحديث.
تصف مارغو تلك اللحظة المروعة، لا من زاوية سياسية، بل من شقوق الذاكرة اليومية، فتروي: "أصعب ما مرّ عليّ لم يكن يوم مغادرتي بغداد، بل اليوم الذي سمعت فيه جارنا المسلم يقول لأبي: ‘أنتو مو منّا... أنت يهودي . عندها فقط عرفت أن الوطن يمكن أن يصبح سكينًا."
لم يكتفِ العراق الرسمي بهذا النزف، بل واصل حملات التشكيك والملاحقة لما تبقى من اليهود بعد ذلك، لا سيما في عهد البعث الثاني، حين غابت الثقة وتحولت الهويات الدينية إلى أدوات قمع. في هذا المناخ الملوث بالخوف، تشكّلت مذكرات مارغو كرتيكار، كوثيقة تحكي عن الإنسان حين يشعر أن تاريخه صار تهمة، وأن المكان الذي أحبه قد تخلّى عنه.
وما يمنح هذا العمل خصوصيته هو قدرته على التقاط التمزق الداخلي دون الوقوع في خطاب الضحية أو المظلومية. مارغو لا تهاجم العراق، بل تحبه رغم خذلانه. لا تتنكر لماضيها، لكنها تعريه من الأوهام، وتقدمه في هشاشته الإنسانية، حيث لا توجد إجابات سهلة، ولا أشرار مطلقون. بل هناك أفراد، ومؤسسات، وأحلام، انهارت بفعل الخوف وسوء التقدير السياسي، وغياب ثقافة التعددية الحقيقية.
ولعل من أكثر المشاهد تأثيرًا ما كتبته عن مغادرتهم البلاد: "غادرنا في الليل، بلا ضجيج. حملتُ صورتين، ودفتر مذكراتي، وقليلًا من التراب في كيس قماش صغير. لم أبكِ، كنت خائفة من أن يُسمع صوتي في الظلمة."
كأنها كانت تُدرك أن الرحيل لن يكون مؤقتًا، وأن الجرح لن يكون سطحيًا. هذا الصمت، وهذه الرمزية في التراب، تقول أكثر مما تقوله المقالات السياسية والخطب الصاخبة.
في خاتمة هذه القراءة، تبرز رؤية وجودية حادة: الهوية ليست بطاقة ولا شجرة نسب، بل هي شعور بالأمان والانتماء إلى مكان لا يتبرأ منك عند أول عاصفة. ومتى ما خذلك وطنك – أو جعلك تشك في حقك في العيش فيه – فإنك لا تفقد "هويتك" بقدر ما تفقد إيمانك بالعالم.
تكتب مارغو، وقد مضت عقود على مغادرتها العراق، في لحظة تأمل مؤلمة: "بعد سنوات في لندن، لم أسأل نفسي لماذا لا أشعر بالانتماء. كنت أعرف الجواب: لأن الوطن الحقيقي لا يُخلق من جنسية، بل من نظرة جار، ودفء شارع، ورائحة طعام أمك."
مارغو، التي بقيت لغتها عربية، ومطبخها بغداديًا، وأغانيها عراقية، لم تغادر العراق فعليًا، بل غادرها العراق. وهذا هو جوهر المأساة.
بقي أن نقول شيئًا عن الترجمة التي اعتمدها المترجم الرائع صلاح مهدي السعيد. لقد بذل جهدًا ملحوظًا في نقل النص إلى العربية، ليس فقط بدقة لغوية، بل بحسٍّ إنساني وفني عالٍ. جاءت لغته سلسة، عذبة، تنساب بهدوء، حتى ليخال القارئ أنه يقرأ العمل بلغته الأصلية. بل يمكن القول، من فرط التماهي بين النص والترجمة، إنه لو شاءت مارغو كرتيكار أن تكتب مذكراتها بالعربية، لما خرجت إلا على هذا النحو.
لقد حافظ المترجم على روح المذكرات، وعلى بنيتها العاطفية والزمنية، وعلى صوت الكاتبة الداخلي. سعى لأن يتلبّس شخصيتها، وأن يبرز معاناتها وأفكارها كما أرادتها أن تُروى، دون أن يتورط في تزيين أو تطويع النص وفق مزاج القارئ العربي. كانت الترجمة جسدًا جديدًا للروح ذاتها، حيث ظل الجو العام للمذكرات – بشخوصها، وأحداثها، وأمكنتها – حيًا ومتنفسًا في العربية كما في الأصل.
وهكذا، تصبح هذه الترجمة ليس فقط وسيطًا بين لغتين، بل بين زمنين، وذاكرتين، وقلبين: قلب الكاتبة، وقلب القارئ العربي.
والكتاب من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين، وصدر في أواخر سنة 2024 ب 400 صفحة من القطع الوسط.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في قصيدة - لون لا تعرفه الشمس-
- قراءة في رواية المتألم المتأمل
- الشاعر مالك مسلماوي.. أصالة الحرف وتجريب القصيدة
- القاضي زهير كاظم عبود كفاحه العلمي ونزاهته في القضاء
- عبد علي حسن... واعادة تشكيل الوعي السردي
- المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي
- ذو النون أيوب يدافع عـــــــن الرصافــي
- رحلة الشرق الأوسط
- الناقد باقر جاسم محمد وآراؤه النقدية
- العتابا والأبوذية الجذور والفروق وأسبقية الظهور
- الشاعرة وداد الواسطي اصالة في الشعر وفرادة في التعبير
- الشاعر العراقي جبار الكواز شاعر متجدد
- الشاعر سعد الشلاه شاعرية متأخرة لم تأخذ طريقها للبروز
- الشاعر حميد يحيى السراب: مسيرة إبداعية ناضجة
- الشاعرة حسينة بنيان.. تنوع في الاداء والأسلوب
- محطات من مسيرة الفقيد سامي عبد الرزاق (ابو عادل)
- انطلوجيا القصة البابلية
- الدارمي والصراع الطبقي
- ذكريات عن قادة الحزب الخالدين
- ناهض الخياط تجربة شعرية متألقة


المزيد.....




- جولة ترامب الخليجية.. ما هو جدول أعمال الرئيس الأمريكي؟.. (ت ...
- حسين الشيخ: حماس جزء من النظام السياسي الفلسطيني ولا يمكن إق ...
- تمثيلية يؤديها مدمن كوكايين.. صحفية أمريكية تعلق على تصريحات ...
- -السجن أهون من الجيش-.. غضب الحريديم في إسرائيل من خطة تجنيد ...
- السعودية.. البدء بتركيب الأعلام السعودية والأمريكية بشوارع ا ...
- وزير الداخلية الفرنسي يأمر بشتديد شروط الحصول على الجنسية، ف ...
- ترامب يعلن قرب إطلاق سراح رهينة أمريكي في غزة بعد مفاوضات مع ...
- مصدر: تركيا لعبت دور الوسيط بين واشنطن وحماس لإطلاق سراح عيد ...
- بعد إنذار إسرائيلي.. وسائل إعلام تتحدث عن قصف يستهدف ميناء ا ...
- ترامب: سأوقع أحد أكثر الأوامر التنفيذية تأثيرا في تاريخ بلدن ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علي محيي الدين - ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار