أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - عادل الياسري.. وردة عراقية نزفت شعراً















المزيد.....

عادل الياسري.. وردة عراقية نزفت شعراً


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 02:48
المحور: سيرة ذاتية
    


في قرية وادعة على ضفاف نهر الفرات، في "شط ملا" بقضاء الهندية، كانت الأرض تحيك أول خيوط القصيدة في قلب طفل وُلد صيف 1949. هناك، بين الحقول والماء والناس الطيبين، أبصر عادل حميد الياسري النور، وفي روحه نبتت بواكير الشعر كما ينبت الورد على الضفاف العطشى. لم يكن محض ابن قرية، بل وريث بيئة تفيض برهافة الإحساس وعمق التفاعل الإنساني، وسط عائلة كانت بمثابة شجرة ظلها يطال كل عابر.
بدأت فتنة القراءة تسرق الياسري من طفولته باكرًا. كانت مجلة الهلال المصرية بوابته الأولى، تلتها عوالم جرجي زيدان والرافعي، وسرعان ما ارتفعت قامته بين الرفوف، حيث الروايات العالمية، وحيث الأدب لا يعرف حدود اللغة والجغرافيا. في سن المراهقة كتب أولى قصائده العمودية، قبل أن يتذوق إيقاع التفعيلة ويجد فيه مجرى أوسع لصوته الداخلي.
ومثل كثير من الحالمين الذين عاشوا تحت ظلال الدولاب الإداري، شغل الياسري وظائف في دوائر الدولة، لكنه لم يسكن طويلاً في لغة المعاملات؛ فقد كانت لغته الأخرى، لغة الشعر، تنبت له أجنحة خارج الجدران الرسمية. تلك الأجنحة حملته إلى عضوية اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وإلى منابر الصحافة والثقافة في بابل وبغداد والعالم.
لم يكن عادل الياسري مجرد شاعر يُطبع له ديوان بين حين وآخر. بل كان صوتًا متجدّدًا، شاعرًا استعار من الوردة أكثر من رقتها: دمعتها، شوقها، انبعاثها، موتها، احتراقها في نار الجمال. من دواوينه: لن يموت الورد، ورد محمّل بالمطر، الوردة ماء النار، وكلها تنضح بعناوين تحيل إلى عالم شعري خاص، عالم فيه من رماد الذاكرة ما يكفي لقصيدة، ومن فتنة الأمل ما يكفي لثورة داخل بيت شعري.
وما بين دفّات كتبه، وبين منابر المهرجانات الكبرى – من مربد الجواهري إلى مهرجانات باريس ولاهاي وصوفيا – حمل عادل الياسري صوته، صوته وحده، لا يشبه سواه، مشبعًا بتجربة إنسانية ثرّة، وبحس صوفي لا يغادر التراب العراقي حتى حين يتكلم في عواصم الغربة.
كتب عنه كثيرون، من النقاد والأدباء، كما دُرست تجربته في رسائل أكاديمية، من إيران إلى العراق، ومن الصحافة الثقافية العربية إلى المجلات المتخصصة. وقد استطاع أن يحفر لنفسه مكانًا بين الشعراء الذين تخطوا حدود اللحظة، متحولين إلى ذاكرة شعرية تضيء لمن يأتي بعدهم.
إن سيرة الشاعر عادل الياسري ليست فقط سيرة شاعر كتب للورد، بل سيرة رجل جعل من الشعر كينونة كاملة، حياة موازية، وعيًا، وموقفًا. لقد غادر العابرين ليجلس مع الخالدين في ظلال شجرة الشعر العراقي، تلك التي تمتد من جذور السيّاب إلى أغصان الشعراء المعاصرين الذين ما زالوا يكتبون على عجل، لئلا يفوتهم موعد القصيدة القادمة.
ومن قصائده المختارة قصيدته "الرماد ملك النار" التي تفتح أفقًا شعريًا زاخرًا بالرموز والإشارات، وتتوسّل المجاز كأداة مركزية لرسم عوالمها الداخلية. يتداخل فيها المطر والنار، العشب والرماد، البحر والصحراء، لتنتج مشهدًا شعريًا كثيفًا، تنساب فيه المعاني وتتماوج الصور.
وهي تحمل نغمة عامية عراقية محببة، تكسر الجديّة النمطية وتمنح النص طابعًا شفاهيًا حميميًا. وكلمة "مُطَرطر" تشير إلى المطر الكثيف الذي يتساقط بشدة وعشوائية، وكأن الشاعر يستدعي زخم الحياة وتداعياتها وهي تهطل عليه، لا مطرًا مائيًا فحسب، بل مطرًا من الصور والذكريات والانفعالات.
المطر: التطهير، الحنين، التوهج "يداك تغتسلان، الأشجار على طيورها يسقط المطر"
يفتتح الشاعر بمشهد يتجاوز الطبيعة، حيث الاغتسال فعل طقسي، روحي، وليس ماديًا فحسب. المطر هنا ليس ماؤه فحسب، بل هو فيض شعوري، تطهير داخلي، بدء جديد. حين تغتسل اليدان، تتطهّر الذات، وحين يسقط المطر على الطيور وهي في الأشجار، فإن الحياة كلها تستعد للتجدّد.
فقوله: (وجوه العشق المتحوّلة "والنار لها أوجه، مليكها الرماد، غرسها الجمر) تأتي النار كضد للمطر، لكن الشاعر لا يتعامل معها كعنصر هدام، بل يمنحها ملامح بشرية: (لها أوجه"، "مليكها الرماد). إنها نار العشق، نار الفقد، نار الكتابة نفسها. الرماد، الناتج عن الاحتراق، هو التاج لا النهاية؛ إنه ما يتبقى من التجربة الشعرية بعد احتراق الذات.
وقوله: (في بستان عاشقة.. بلّلتها أساطير الغواية، فكّت رموز الصفحة الأولى في مدونتي) حيث ينقلنا الشاعر إلى بستان العاشقة، حيث تتعانق الأسطورة بالواقع. الغواية هنا ليست فقط عشقًا جسديًا أو فتنة نسائية، بل غواية المعرفة، غواية الشعر، غواية اللغة. الصفحة الأولى قد تكون صفحة الوجود، أو أولى لحظات الكتابة، أو لحظة الانكشاف الأولى بين العاشق والمعشوق.
أما قوله:(راودت شاعرًا... حاورت ظله الأسماك ... اشتكى...أنها قدّت الشباك من وسطها) الأسماك تحاور الظل، لا الشاعر ذاته. هذه الصورة المفارقة تعمّق من عزلة الشاعر. إنه كائن لا يُمسك به، مثل ظله، والأسماك – التي تعيش في الأعماق – لا تستطيع حتى أن تصطاده. حين تُقطع الشباك من وسطها، تنهار إمكانات الصيد، أي انهيار التواصل، أو فشل الإمساك بالحقيقة.
ومنها: (صحراء المدينة عاثت بها الأشجار.... ظلّلت رملها بما يشبه الخوف) المدينة تتحول إلى صحراء، والأشجار، وهي رمز الحياة، لا تثمر بل "تعيث". تغدو الأشجار هنا غريبة عن دورها؛ ظلالها ليست بردًا وسلامًا بل "ما يشبه الخوف". هذا انزياح في الوظائف الطبيعية للموجودات، ينم عن قلق وجودي، وارتباك داخلي في الوعي الشعري.
يقول: (وأومأت عيناه لمن رأى كفيه ممدودتان على سكة للقطا) القطا – الطائر المهاجر – يوحي بالغربة والتوق والحنين، وسكة الحديد تفتح باب التأويل نحو الانتظار / السفر / الرحيل. الأيدي الممدودة، المبللة بالعشب، تصير صورة رمزية للتسليم، للرجاء، أو حتى للتضحية الصامتة.
وقوله: (الأسى ..، كفّان تعصرانه) فالأسى لا يُقال، بل يُعصر بين الكفّين. إنه مادة ملموسة، لا شعور عابر. تتجسد الأحزان في الجسد وتتحول إلى فعل، إلى شكل حسي. هذا الوعي الجسدي بالحزن يعمق أثره الشعري ويجعله يفيض عبر الصورة.
ونهايتها:( لكنها النار في تنوّرها... ترسل الشفرات أسرارًا... يتكئ العشق على مخداتها... ويسبل القطا جفنيه في رفّة) القصيدة تختم بمشهد دافئ رغم ألسنة النار: تنور يرسل الشفرات، والعشق يتكئ على المخدات، والقطا يرف جفنيه. إنها حالة سلام مؤقتة، هشّة، لكن جميلة، كمن بلغ لحظة استراحة بعد عاصفة وجدانية طويلة.
والقصيدة ليست نصًا سرديًا أو قصًا عاطفيًا مباشرًا، بل لوحة شعرية سريالية، تنفتح على تأويلات عديدة. تتداخل فيها ثنائيات: النار- الماء، الحب-الفقد، الذات-الظل، الحلم-الرماد. ويُظهر الشاعر فيها قدرته على تفجير اللغة، وجعل الصورة الشعرية تؤدي دورًا مزدوجًا: جماليًا وتأمليًا. إنه نص يتطلب قارئًا مستعدًا للضياع المؤقت في متاهته، لكن مكافأته كبيرة: حالة شعرية خالصة، تفيض بالرمز، وتدعونا لأن نعيد تشكيل العالم برؤية شعرية جديدة.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علي الحمداني... شاعر تفتّحت في قلبه حدائق الشعر والوفاء
- حمزة فيصل المردان شاعر يتقاطع فيه النبض العمودي والهمّ الحدا ...
- حامد الشمري: شاعر العمود ومترجم القصيدة العالمية
- الدكتور جليل كمال الدين المُترجِم الذي أهدى القارئ العربي دف ...
- جبار الكواز.. صائغ الطين وحارس الذاكرة البابلية
- الدكتور علي إبراهيم قارئ السرد العراقي وناقد الغربة الحيّة
- أحمد زكي كاظم الأنباري بين ضوء الكلمة ونبض التاريخ
- الشاعر عبد الهادي عباس طاقة شعرية متجددة
- ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار
- قراءة في قصيدة - لون لا تعرفه الشمس-
- قراءة في رواية المتألم المتأمل
- الشاعر مالك مسلماوي.. أصالة الحرف وتجريب القصيدة
- القاضي زهير كاظم عبود كفاحه العلمي ونزاهته في القضاء
- عبد علي حسن... واعادة تشكيل الوعي السردي
- المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي
- ذو النون أيوب يدافع عـــــــن الرصافــي
- رحلة الشرق الأوسط
- الناقد باقر جاسم محمد وآراؤه النقدية
- العتابا والأبوذية الجذور والفروق وأسبقية الظهور
- الشاعرة وداد الواسطي اصالة في الشعر وفرادة في التعبير


المزيد.....




- خبير هنغاري: نظام كييف يستفز موسكو بالمسيّرات لتعطيل جهود ال ...
- عمدة موسكو: الدفاعات الجوية أسقطت 9 طائرات مسيرة كانت متجهة ...
- نائب أوكراني: زيلينسكي يدمر أوكرانيا لتجنب المساءلة عن جرائم ...
- أوتشا: 160 ألف فلسطيني بغزة نزحوا خلال أسبوع
- نتنياهو يهاجم 3 قادة غربيين ويتهمهم بتشجيع حماس
- إلغاء ترخيص جامعة هارفرد لتسجيل الطلاب الأجانب وسط تصاعد الخ ...
- الولايات المتحدة تفرض عقوبات على السودان بعد اتهام الجيش باس ...
- مستوطنون إسرائيليون يهاجمون بلدة بروقين في الضفة الغربية ويح ...
- Wild Bandito 789club – ??t k?ch kho b?u và s?n th??ng b?t ng ...
- الخارجية الأمريكية تفرض عقوبات على السودان لاستخدامه أسلحة ك ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - عادل الياسري.. وردة عراقية نزفت شعراً