أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود














المزيد.....

الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 12:03
المحور: سيرة ذاتية
    


في ذاكرة الحلة الفيحاء، حيث تعانق الروح ضفاف الفرات، وتتعانق المنائر بأصداء العقول النيّرة، يسطع اسم الشيخ عبد الكريم الماشطة كواحد من أعلام النور، وعنوانٍ لجيلٍ من العلماء الذين لم ينقطعوا عند حدود المدارس والمحراب، بل مدّوا ظلّهم إلى مساحات المجتمع والفكر والنضال الإصلاحي.
وُلد الشيخ الماشطة عام 1881، في مدينةٍ تجذّرت في حضارتها أصول المعرفة، وتفتّحت في دروبها شذى المجالس العلمية وروح الإصلاح. نشأ في بيتٍ تحفّه الثقافة الدينية، وترضعه القيم النبيلة. ومنذ نعومة أظفاره، بدا كأن بينه وبين الكتب عهدًا سرمديًا لا يفتر، ولا تنفصم عراه. كان الفتى الذي يجالس العلماء في حلقات الدرس، ويحتضن الكتب كمن يحتضن قدره. ولئن سكن صوته الصبياني حينذاك، فإن صوته العلمي كان يشق دربًا ناصعًا إلى المستقبل.
كبر الشيخ، وكبرت معه هواجسه الفكرية، وأشرعت له أبواب العلم الشرعي، فأمعن في دراسة القرآن الكريم، وطرق أبواب الحديث الشريف، وتعمق في الفقه والسيرة، إلى أن غدا منارة يهتدي بها طلاب العلم، ومنبرًا يخاطب من خلاله وجدان الأمة وعقلها في آنٍ واحد.
لكن الشيخ عبد الكريم لم يكن رجل منبر فحسب، بل كان قلبًا نابضًا بقضايا الناس، وأذنًا تصغي لآهاتهم، ولسانًا ينطق بهمومهم في زمنٍ كانت الكلمة فيه مغامرة. فبالتوازي مع رسالته العلمية، شق طريقه في الإصلاح، ساعيًا إلى إحياء القيم الإسلامية الأصيلة في النفوس، متصديًا لمظاهر التجهيل والتعصب والانغلاق. لم يكن يرضى أن يُحاصَر الدين بين جدران المساجد، بل أراده فاعلاً في سلوك الناس، منسجمًا مع حاجاتهم، مرشدًا لهم في معاملاتهم، كما في عباداتهم.
درّس الشيخ في المساجد والمدارس، واحتفى به طلبته لما عُرف عنه من تواضع العالم، وشفافية المعلم، وصدق الإنسان. بأسلوبه الرقيق، وبيانه السهل الممتنع، كان يكسو المفاهيم العميقة أثوابًا من الوضوح، تجعل أعقد المسائل يسيرة الفهم، وعميقة الأثر. ولم يكن التفاف الناس حوله من باب العلم وحده، بل لأنهم وجدوا فيه أبًا روحيًا، وصوتًا يعبر عنهم.
ولعل إحدى المحطات المضيئة في سيرته، هي سعيه لرفع الوعي المجتمعي. فإلى جانب اهتمامه بالشباب والطلاب، كان الشيخ عبد الكريم يخصّ كبار السن وعامّة الناس بجزء من جهده، فيقيم الندوات والمحاضرات، ويجوب بحديثه أزقة الحلة، حاملاً رسالة العلم والتنوير، لا يبغي بها وجاهة، ولا منصبًا، بل رضى الله ورضى الضمير.

لم يكن غريبًا، إذن، أن يتحوّل الشيخ إلى رمز اجتماعي، وإلى حامل لواء التغيير في مدينةٍ عريقة. فقد سعى إلى التخفيف عن الفقراء، واحتضان الأيتام، وتأسيس مشاريع تعليمية وخيرية تخدم أبناء المناطق المهمّشة. وكان يرى في العلم مسؤولية اجتماعية، لا تكتمل إلا إذا غدت شمسه مشرقة في بيوت الجميع.
وحين اقتضى المقام أن يُدلي بصوته في ميدان العمل السياسي والفكري، لم يتردد الشيخ. فساهم في تأسيس حزب الشعب سنة 1946 في الحلة، وشارك في حركة أنصار السلام، وكان عضوًا في مؤتمرها التأسيسي، متحديًا سياسات التكميم والملاحقة. كتب في الصحف والمجلات، ولم يكتفِ بنقل المعرفة، بل كان صانعها، فأسهم في جرائد مثل الفيحاء، حمورابي، الحكمة، العدل، وصوت الفرات، إلى جانب المطبوعات البغدادية مثل الوطن ولواء الاستقلال واتحاد الشعب. بل وأصدر مجلته الخاصة (العدل)، التي لم ترَ النور إلا عددًا واحدًا في آذار 1938، قبل أن تصادرها السلطة وتُلغى امتيازاتها، في مشهد يعكس ضريبة الفكر الحر.
أما مؤلفاته، فهي شواهد حية على عمق فكره وسعة أفقه. من أبرزها: الأحكام الجعفرية في الأصول الشخصية"، طُبع أول مرة في بغداد سنة 1923، ثم في القاهرة لاحقًا، وكان مرجعًا فقهيًا موثوقًا.، مبادئ الصوفية وحكمة الإشراق"، وهو عمل روحي وفلسفي، قام بتحقيقه الدكتور سعد الحداد، ليبقى علامة في أدبيات التصوف الإسلامي.
أما مكتبته العامرة، التي كانت تضم نفائس الكتب والمخطوطات، فقد آثرت أسرته أن تهديها إلى مكتبة جامع الخلاني ببغداد، وإلى إحدى المكتبات النجفية، لتظل منارًا لمن أراد أن ينهل من علمه.
رحل الشيخ عبد الكريم الماشطة في عام 1959، تاركًا وراءه أثرًا لا يزول، وسيرةً لا تبهت. رجلٌ من طينة العظماء، جمع بين العالم والمصلح، بين القلم والمنبر، بين العقل والضمير. عاش حياته كما يحيا الزاهد العارف، ومات كما يموت الكبار: حاضرًا في ضمائر الناس، غائبًا عن الأجساد فقط.
لقد كان الشيخ الماشطة صورة مشرقة من صور التنوير الإسلامي الحقيقي، حيث لا انفصال بين الدين والحياة، ولا تناقض بين الإيمان والعقل، ولا هوّة بين العالم والناس. ومن أراد أن يرى العلم حين يمتزج بالإصلاح، فلينظر في صفحات حياته، ففيها عبرة لكل من يسعى لخير هذه الأمة.
وأفضل من ألم بسيرته ومسيرته الباحث الجاد أحمد الناجي في كتابه الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في العراق، الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة، بغداد، 2019.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قارئ الطين: طه باقر حين نطقت الأرض باللغة السومرية
- ريام الربيعي حين يكتب الجمال أنوثته شعراً
- صبري الحيدري الناقد الذي رأى في الإهداء مرآة للنص
- الدكتور سامي سعيد الأحمد راوي ذاكرة الحضارات
- الدكتور صباح نوري المرزوك عاشق الحلة ومؤرّخ وجدانها
- حسين علوان عينٌ على بابل وقدمٌ في لغة العالم
- أحمد الناجي مؤرخ الذاكرة ومثقف الحلة المتجدد
- جعفر هجول شاعر مترحل بين الغربة والعشق
- الناقد الذي عبر الظل أمين قاسم خليل
- أحمد سوسة ضميرُ العلمِ ومسافرُ الزمان في خرائط الأرض وذاكرة ...
- خالد الحلّي شاعر المنفى وصوت الطفولة البعيد
- قراءة في قصيدة -النهر والمقصلة- للشاعر موفق محمد
- جعفر الكوّاز حاملُ الهوى ومفهرسُ الذاكرة
- الدكتور عدنان الظاهر سيرة حياة عالم كيميائي مميز
- عبد الإله كمال الدين... العابر بين الخشبة والمكتبة
- أديب كمال الدين شاعر الحرف ومتصوف المعنى
- الدكتور وليد جاسم الزبيدي شاعر الذاكرة والمناسبات
- قاسم عبد الأمير عجام الناقد الذي قتلته الكلمات الحية
- الدكتور علي الربيعي ذاكرة المسرح العراقي
- حسين السلطاني.. الشاعر الذي ظلمه المجتمع


المزيد.....




- لماذا نشرت اليونان سفنا حربية قبالة السواحل الليبية؟
- لماذا نشرت اليونان سفنا حربية قبالة السواحل الليبية؟
- قوارب الهجرة من الجزائر: إسبانيا تحقق في ظهور جثث مهاجرين مو ...
- للمرة الأولى منذ إطلاقه... التلسكوب جيمس ويب يكتشف كوكبا خار ...
- من هو زهران ممداني المرشح لمنصب عمدة نيويورك؟
- من هو المرشح المسلم لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني؟
- الجيش الإسرائيلي يزعم تنفيذ عمليات -كوماندوز برية- داخل إيرا ...
- خلافات حادة في واشنطن بعد تسريب تقرير تقييم الضربات على منشآ ...
- مليار دولار من البنك الدولي لتعزيز البنى التحتية في العراق و ...
- إيران - إسرائيل: إنجازات وإخفاقات.


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - الشيخ عبد الكريم الماشطة مصباح علمٍ وتنوير في ظلمات الركود