أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - أول حب، آخر حب ‏ ‏محمد عبد الكريم يوسف ‏














المزيد.....

أول حب، آخر حب ‏ ‏محمد عبد الكريم يوسف ‏


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 02:50
المحور: قضايا ثقافية
    



‏أول حب، آخر حب

‏محمد عبد الكريم يوسف

‏كانت رائحة الياسمين تتسلل من نافذة غرفتي، معلنةً عن قدوم ربيع جديد. لكن الربيع، في هذه الأيام، لم يعد يحمل لي شيئًا من البهجة. بل كان يحمل معه مرارة الذكريات، وتلك اللسعة الحادة في القلب التي تذكرني بما مضى. كنتُ جالسًا في مقعدي المفضل، أرتشف قهوتي السوداء، وأناظر الصورة القديمة على الطاولة أمامي. صورة باهتة الألوان، لكنها حية في ذاكرتي، كأنها التقطت للتو. فيها، كنتُ أنا، شابًا يافعًا، بابتسامة واسعة تخفي خلفها عالمًا من الأحلام. وبجانبي، كانت هي. ليلى.

‏ليلى. مجرد ذكر اسمها كان كافيًا ليعيد نبض قلبي إلى إيقاعٍ نسيتُه منذ عقود. كان حبها هو الأول، الحب البكر الذي لا يتلوث بمرارة التجارب أو خيبات الأمل. لم أكن أدرك وقتها أن هذا الحب سيكون الأول... والأخير.

‏كنا جيرانًا، يكاد منزلانا يتلاصقان في الحي القديم. كان منزلنا، كغيره من البيوت الدمشقية العتيقة، يحمل في طياته ألف حكاية وحكاية. فناءٌ واسعٌ تتوسطه بحرة صغيرة، وجدرانٌ حجرية تروي قصص أجيال مضت. كان ذاك المنزل هو أول منزل يألفه فتى مثلي، ويحفر في روحه تفاصيل كل زاوية فيه. ومن بين تلك الزوايا، كانت نافذة ليلى المقابلة لنافذتي.

‏كبرنا سويًا. كانت ليلى هي رفيقة طفولتي، شريكة ألعابي، ومستودع أسراري الصغيرة. عيناها اللوزيتان، وشعرها الأسود المنسدل كشلال، وابتسامتها الخجولة التي كانت تظهر على استحياء. كنا نتقاسم الكتب، والأحلام، وحتى شطائر أمي. كنا نجلس لساعات على درج المنزل، نخطط لمستقبلنا الذي كان يبدو ورديًا وخاليًا من أي عوائق.

‏"عندما أكبر، سأتزوجك يا أحمد، ونبني منزلًا كبيرًا هنا في الحي." كانت تقولها بثقة الأطفال، وأنا أصدقها بكل قلبي.

‏"وسأصبح مهندسًا عظيمًا، وأصمم لكِ أجمل البيوت في دمشق!" أرد عليها بحماس.

‏كبرنا، وتسللت مشاعر جديدة إلى قلوبنا. مشاعر لم نعد نستطيع تسميتها صداقة طفولة. كان حبًا يتفتح ببطء، كزهرة نادرة تتفتق أوراقها تحت أشعة الشمس الدافئة. كانت نظراتنا تحمل معانٍ أعمق، ولمساتنا العفوية تترك رجفة خفيفة في الأطراف. كنتُ أجد في ليلى كل شيء. كانت هي الضحكة، والدفء، والأمان. كان العالم كله يكمن في عينيها.

‏عندما بلغتُ العشرين، وليلى في التاسعة عشرة، اعترفت لها بحبي. لم أكن بحاجة لقول الكثير. كانت عيناها تتحدث، ويداها ترتجفان بين يدي. كان شعورًا لا يوصف، شعور بأن الكون كله قد انحنى ليقدم لنا مباركته. وعدنا بعضنا بالحب الأبدي، بالبقاء سويًا مهما حدث. كان ذلك العهد مقدسًا في قلبي، لا يمكن أن ينكسر.

‏كانت عائلتا ليلى وعائلتي تعرفان مدى ارتباطنا. لم تكن العلاقة سرية، بل كانت مباركة ضمنيًا، بانتظار الوقت المناسب للإعلان الرسمي عنها. كان والديّ يحبان ليلى كابنتهما، وكانت أمها تنظر إليّ كابن لها. كان كل شيء يسير في طريقه الصحيح، نحو تلك النهاية السعيدة التي حلمنا بها.

‏لكن الحياة، يا صديقي، غالبًا ما تخبئ لنا مفاجآت لا تخطر على بال. مفاجآت تقلب الموازين، وتجعلنا ندرك أن الأحلام الجميلة قد تكون هشة كفقاعة صابون.

‏في ذلك العام، جاءت الفرصة الذهبية. بعثة دراسية إلى الخارج، لدراسة الهندسة في أرقى الجامعات الأوروبية. كانت فرصة لا تعوض، حلم لطالما راودني. ترددتُ كثيرًا. كيف لي أن أترك ليلى؟ كيف لي أن أبتعد عن ذاك المنزل الذي كان شاهدًا على كل لحظات حياتنا؟

‏"لا تتردد يا أحمد، هذه فرصتك. سافر، ادرس، وحقق أحلامك. سأنتظرك. قلبي معك." قالتها ليلى بعينيها الدامعتين، لكن كلماتها كانت تحمل قوة جبال دمشق.

‏"لكنني لا أريد أن أترككِ." قلتُها وأنا أكاد أبكي.

‏"سأكون هنا. وسيبقى الحب هنا. أنتَ تعود بعد سنوات قليلة، ونبني حياتنا معًا. هذا مجرد اختبار لصبرنا."

‏آمنتُ بها، وبكل كلمة قالتها. سافرتُ، وقلبي معلق بها. كانت الرسائل المكتوبة بخط اليد هي شريان الحياة بيننا. كنتُ أقرأ كلماتها مرارًا وتكرارًا، أشم رائحة عطرها الذي كانت ترشه على الورق. كانت صورها تملأ غرفتي في السكن الجامعي، تذكرني بالوعد الذي قطعناه.

‏مرت السنون كالأعوام. أربع سنوات من الغربة، من الدراسة المكثفة، ومن الشوق الذي كان ينهش روحي. كنتُ أحاول قدر الإمكان أن أزور دمشق في الإجازات القصيرة، لأرى ليلى، لأستمد منها القوة، لأجدد عهدنا. كانت اللقاءات قصيرة، لكنها كانت كافية لتشعل جذوة الحب في قلبينا.

‏في العام الرابع لدراستي، بدأت الرسائل تتناقص. مكالماتنا أصبحت أقل. شعرتُ بشيء غريب، بشيء من البعد يتسلل إلى علاقتنا. سألتها، فأخبرتني أن والدها مريض، وأنها منهمكة في العناية به. صدقتها.

‏ثم جاءت الرسالة التي قلبت حياتي رأسًا على عقب. رسالة إلكترونية، وليست مكتوبة بخط اليد. خط غريب، ليس خط ليلى.

‏"أحمد، آسفة لأخبرك بهذا. ليلى توفيت. والدها توفي قبل شهرين، وهي لم تحتمل الصدمة. كانت مريضة بقلبها منذ زمن، ولم يخبرنا الأطباء إلا مؤخرًا أن حالتها تتدهور بسرعة. لم ترد أن تخبرك لتُثقل عليك وأنت تدرس. ماتت وهي تذكر اسمك."

‏الصدمة كانت أكبر من أن أستوعبها. ليلى؟ ماتت؟ لا... لا يمكن. هذه كذبة. نكتة سخيفة.

‏ركضتُ إلى المطار كالمجنون. لم أكن أرى أمامي شيئًا



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سميحة: عالم بلا قيود
- ليتني قد مت قبل الذي قد مات من قبلي
- ‏المحطة قبل الأخيرة ‏
- كرز في غير أوانه2 ، محمد عبد الكريم يوسف
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (4)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (3)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (1)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (2)
- النظام العالمي - ارتجال بالتصميم
- سقوط النازية وتداعيات الحرب
- عدو ما يجهل: لعنة سوء الفهم
- الطريق إلى دمشق: ما الشيء الذي كاد نتنياهو أن يكشفه للأسد عا ...
- رانديفو: حكاية قلبٍ بريء وقطارٍ فات
- وصايا الضحايا: حكاياتٌ من ركام الكراهية
- قلب روسي حقيقي: ألكسندر دوغين، فلاديمير بوتن والأيديولوجية ا ...
- حرب كشمير المنسية تتحول إلى حرب عالمية
- لورنس العرب يتحدث عن الحرب: كيف يطارد الماضي الحاضر
- أشباح الشرق الأوسط القديم
- لماذا يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير؟
- تواصلني حين لا ينفع الوصل: قصة لم تكتمل


المزيد.....




- بعد أسابيع من افتتاحه.. كوريا الشمالية توقف استقبال السياح ا ...
- الاتحاد الأوروبي يفرض حزمة عقوبات جديدة على روسيا ويخفض سقف ...
- بطريركا القدس للاتين والروم الأرثوذكس في زيارة إلى غزة عقب ه ...
- المرصد السوري: مواجهات عنيفة في ضواحي السويداء وما يجري خطير ...
- ما يحصل في السويداء هو الأخطر في سوريا منذ سقوط نظام الأسد.. ...
- احتجاجات غاضبة في ماليزيا لرفض اعتماد سفير أميركي
- حماس: لا خيار لإسرائيل سوى صفقة وفق شروط المقاومة
- تزاحم الغزيين للحصول على وجبة طعام مع بلوغ الجوع ذروته
- جهود المتطوعين بالخرطوم تطمح للانتقال من مرحلة الإطعام إلى د ...
- عاجل| جنبلاط: جبل العرب في السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا وا ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - أول حب، آخر حب ‏ ‏محمد عبد الكريم يوسف ‏