أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - كرز في غير أوانه2 ، محمد عبد الكريم يوسف















المزيد.....

كرز في غير أوانه2 ، محمد عبد الكريم يوسف


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 20:14
المحور: قضايا ثقافية
    


‏كرز في غير أوانه

‏كانت شمس نيسان تدغدغ وجهي بكسل، ترسم خطوطًا ذهبية على ستائر نافذة مكتبي. الساعة لم تتجاوز الثامنة صباحًا، لكنني كنتُ مستيقظًا منذ ساعات، أحتسي قهوتي المرة، وأناظر كومة الأوراق المتناثرة أمامي. أوراقٌ تحمل أرقامًا، خططًا اقتصادية، تقارير تحليلية. هذا كان عالمي، عالم الأرقام الجافة والمنطق الصارم، الذي بنيتُ فيه مملكتي الخاصة على مدى عقود. كنتُ فؤاد، الرجل الذي يشار إليه بالبنان في الأوساط المالية، المستشار اللامع الذي لا يخطئ له رأي. تجاوزتُ الستين بخمس سنوات، لكن الحياة كانت ما تزال تتدفق في عروقي بقوة، لم أشعر يومًا بعبء السنين، أو هكذا كنتُ أظن.

‏ثم رنّ الهاتف. رنينٌ خجول، لم يكن كالمعتاد، لم يكن رنين العمل الصاخب، بل نغمة هادئة، غريبة. نظرتُ إلى الشاشة. رقمٌ غير معروف. ترددتُ لحظة، ثم أجبت.

‏"ألو؟"

‏"صباح الخير دكتور فؤاد، هل أنت بخير؟"

‏صوتٌ عذب، أنثوي، يحمل رقة لم أعهدها في مكالماتي اليومية. لم يكن صوتًا غريبًا تمامًا، لكنه كان بعيدًا، كصدى لحلم جميل.

‏"نعم، صباح النور. من المتحدث؟" سألتُ، وقلبي يدق دقات غريبة، دقاتٌ نسيتها منذ زمن بعيد.

‏"أنا ريتا. ريتا حداد. هل تذكرني؟"

‏ريتا! كادت الكلمة أن تفلت مني كصيحة مفاجئة. ريتا حداد. الاسم الذي حفر في ذاكرتي قبل سنوات طويلة، ثم طمرته رمال النسيان بفعل الزمن والأيام القاسية. ريتا. الطالبة المتفوقة، صاحبة العيون البنية الواسعة التي كانت تتلألأ بذكاء وفضول، وابتسامة ساحرة كانت تنير قاعة المحاضرات بأكملها. كانت أصغر مني بأكثر من ثلاثين عامًا، لكن فارق العمر لم يكن ليُذكر في تلك الأفاعيل التي كانت تنسجها روحها الشابة حولي.

‏"ريتا! طبعًا أتذكرك. كيف حالك؟" حاولتُ أن أبدو هادئًا، لكن قلبي كان يرقص فرحًا، كصبي في ريعان شبابه.

‏"بخير دكتور، الحمد لله. أنا... أنا اتصلتُ لأمر خاص." تردد صوتها قليلًا، وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة.

‏"تفضلي يا ابنتي. أي مساعدة تحتاجينها، أنا جاهز." قلتُها بعفوية، متناسيًا أن كلمة "ابنتي" كانت كافية لتضعني في خانة الأبوة التي هربت منها في داخلي لحظة سماعي اسمها.

‏"ليس الأمر يتعلق بمساعدة دراسية هذه المرة يا دكتور. الأمر شخصي. أتساءل إن كنتَ مستعدًا لمقابلتي؟"

‏سؤالها فاجأني. مقابلة؟ بعد كل هذه السنوات؟ ما الذي قد يدفعها لطلب ذلك؟ كان هناك فضول جارف يشتعل في داخلي، وشيء آخر، شيء يشبه الأمل، يهمس في أذني بأشياء لم أعد أجرؤ على تخيلها.

‏"بالتأكيد يا ريتا. أي وقت يناسبك؟"

‏"مساء اليوم؟ في مقهى الكرز؟"

‏مقهى الكرز. كان هذا المقهى الصغير الهادئ مكان لقاءاتنا المتكررة قبل سنوات. كنا نلتقي هناك لمناقشة المشاريع الجامعية، أو لمجرد تبادل الأحاديث عن الكتب والموسيقى والفن. كان ذلك المقهى شاهدًا صامتًا على شرارة لم أجرؤ على الاعتراف بها في قلبي وقتها.

‏"تمام يا ريتا. سأكون هناك في السابعة مساءً."

‏أغلقتُ الهاتف ويداي ترتجفان. نظرتُ إلى انعكاس صورتي في زجاج النافذة. رجل ستيني، شعره تخلله الشيب، وخطوط الزمن بدأت تحفر طريقها حول عيني. هل كان هذا أنا؟ هل كان بإمكاني أن أعود شابًا؟ هذا السؤال لم يغادر رأسي طوال اليوم.

‏في المساء، وصلتُ إلى مقهى الكرز قبل الموعد بعشر دقائق. لم يتغير المكان كثيرًا. ذات الطاولات الخشبية العتيقة، ذات الرائحة المميزة للقهوة المحمصة والكتب القديمة. جلستُ في الزاوية المفضلة لدينا، أراقب المدخل بقلبٍ يرفرف كعصفور محبوس.

‏ثم دخلت. كانت مختلفة، وفي الوقت نفسه، هي نفسها. لم تعد تلك الفتاة الطالبة المترددة. أصبحت امرأة شابة، أنيقة، بثقة تفيض من عينيها. شعرها الأسود الداكن كان منسدلًا على كتفيها، وعيناها البنيتان كانتا تلمعان ببريق خاص. ابتسامتها، آه ابتسامتها، كانت ما تزال قادرة على إضاءة الأماكن المعتمة في روحي.

‏نهضتُ لاستقبالها، وهي تتقدم نحوي بخطوات واثقة. "مساء الخير دكتور فؤاد."

‏"مساء النور ريتا. ما شاء الله، كبرتِ وأصبحتِ أجمل." قلتُها بعفوية، وكأنني أعاتب الزمن الذي مرّ بهذه السرعة.

‏جلست قبالتي، وابتسامة خجولة تعلو شفتيها. "شكرًا لك دكتور. أنت أيضًا لم تتغير كثيرًا."

‏ضحكتُ. "هذه مجاملة لطيفة منك."

‏طلبنا القهوة، ثم ساد صمت قصير. صمتٌ مليء بالأسئلة غير المنطوقة، بالذكريات القديمة التي تطفو على السطح.

‏"ما الذي جعلك تتصلين بي يا ريتا؟" سألتُ، محاولًا كسر الحاجز.

‏تنهدت بعمق، وكأنها تجمع شتات أفكارها. "أنا... أنا أتصلتُ بك لأنني أردتُ أن أقول لك شيئًا لم أستطع قوله من قبل. شيئًا ظل يؤرقني لسنوات."

‏شعرتُ بالفضول يشتعل بداخلي. "ما هو يا ابنتي؟"

‏نظرت إليّ مباشرة، وعيناها تحملان نظرة جادة، لم أرها فيها من قبل. "أنا... أنا أحببتك يا دكتور فؤاد."

‏كانت الكلمات كالصاعقة. ضربتني في الصميم، أحرقت كل ما هو بارد وساكن في داخلي. تجمّدت في مكاني، عاجزًا عن النطق. أحببتني؟ هي؟ ريتا؟ الفتاة التي كنت أرى فيها ابنتي، تكن لي مشاعر الحب؟

‏"ريتا... ماذا تقولين؟" صوتي خرج بالكاد، هامسًا، لا يصدق ما يسمع.

‏"نعم يا دكتور. أحببتك منذ اليوم الأول الذي رأيتك فيه. طريقة حديثك، شغفك بالعلم، نظرتك الثاقبة، طيبتك. كل شيء فيك كان يجذبني. حاولتُ أن أُخفي مشاعري، أن أُقنع نفسي أنها مجرد إعجاب أستاذ بطالبته، لكنني لم أستطع. كنتُ أجد الحجج الواهية لألتقي بك في المكتبة، في المقهى. كنتُ أبحث عنك في أروقة الجامعة. كنتُ أتتبع أخبارك."

‏كانت تتحدث بصدق، بقلب مفتوح، وعيناها تلمعان بالدموع. كل كلمة كانت تزلزل كياني. تذكرتُ الأيام التي كانت تتردد فيها على مكتبي، تسأل عن تفاصيل دقيقة في المحاضرات، تستشيرني في كتب لم تكن ضمن المنهج. كنتُ أظنها مجرد طالبة متفوقة شغوفة بالعلم. لم أدرك أن هناك شيئًا أعمق من ذلك بكثير.

‏"لكن... لكنني كنتُ أكبر منك بكثير يا ريتا. كنتُ أستاذك." قلتُ، محاولًا أن أجد تفسيرًا لما أسمع.

‏"لم يكن العمر يعني لي شيئًا يا دكتور. الحب لا يعرف الأعمار. كنتُ أرى فيك الرجل الذي أحلم به. الرجل الناضج، الحكيم، الذي أستطيع أن أتعلم منه، أن أستند إليه."

‏توقفتُ لحظة، أحاول استيعاب ما يجري. "ولماذا لم تقولي لي هذا من قبل؟ لماذا الآن؟"

‏نزلت دموعها على خديها. "لأنني كنتُ خائفة. خائفة من الرفض. خائفة من نظرة المجتمع. كنتُ أظن أنك لن تبادلني نفس الشعور. وكنتُ صغيرة، غير ناضجة بما يكفي لأواجه كل هذا. تخرجتُ، سافرتُ، حاولتُ أن أنساك. دخلتُ في علاقات أخرى، لكنها كلها فشلت. لم أستطع أن أحب أحدًا كما أحببتك. كلما حاولتُ أن أتقدم في حياتي، كنتُ أجد طيفك يلاحقني. لم أستطع الاستمرار في الكذب على نفسي. لم أستطع أن أعيش وأنا أحمل هذا السر في قلبي. أردتُ أن أقول لك، حتى لو كان ذلك هو اللقاء الأخير بيننا."

‏كلماتها كانت كالموسيقى الحزينة، تعزف على أوتار قلبي المنسية. كم كنتُ أعمى! كم كنتُ غافلًا! في تلك السنوات، كنتُ أصارع وحدتي بعد وفاة زوجتي، وانشغالي في العمل. كنتُ أظن أن حياتي العاطفية قد انتهت. لم أكن أرى النور الذي كان يشع من عيني ريتا، لم أدرك أن هناك قلبًا شابًا ينبض لي.

‏"ريتا..." تمتمتُ، ويدي تمتد لا إراديًا نحو يدها على الطاولة. "أنا... أنا أيضًا... كنتُ أشعر بشيء تجاهك. لكنني قمعته. قمعته بقسوة. كنتُ أقول لنفسي: كيف يمكن لرجل في مثل عمري أن يفكر بهذه الطريقة في طالبته؟ هذا غير معقول، غير مقبول."

‏نظرت إليّ عيناها الواسعتان، تحملان أملًا جديدًا. "أكنتَ تشعر بي حقًا؟"

‏"أقسم لك يا ريتا. كنتُ أترقب وجودك في المحاضرات. كنتُ أبتسم عندما أراكِ في الممرات. كنتُ أستمتع بمناقشاتنا، وأجد فيها نوعًا من الروحانية. كنتُ أجد نفسي أفكر بكِ في المساء. لكنني كنتُ أضع هذه الأفكار جانبًا. أقول لنفسي إنها مجرد أوهام، مجرد حنين لشباب مضى. كنتُ خائفًا من أن أخطو هذه الخطوة. خائفًا من نفسي، ومنكِ، ومن نظرة العالم."

‏توقفتُ لحظة، أستعيد أنفاسي. "وكنتُ أحسب أنكِ صغيرة جدًا، وأن هذه المشاعر مجرد إعجاب مؤقت، وأنكِ ستكبرين وتنسينني."

‏ابتسمت بحزن. "لم أنسَ يا دكتور. لم أنسَ لحظة واحدة."

‏جلستُ مع ريتا لساعات طويلة تلك الليلة، نتحدث عن كل شيء. عن أحلامنا الضائعة، عن الفرص التي فوتناها، عن الحياة التي كانت تسير في مسارين متوازيين، ولم يلتقيا إلا الآن. عرفتُ أنها عادت إلى البلاد بعد سنوات من العمل والدراسة في الخارج. أنها استقرت في عمل جيد. وأنها، مثلي، لم تجد شريك الحياة المناسب.

‏شعرتُ بشعور غريب يملأني. شعور بالحب، والفرح، والألم في آن واحد. فرح لأنني اكتشفتُ أن هذا الحب كان متبادلًا، ألم لأنني أدركتُ أن هذا الكشف جاء متأخرًا جدًا.

‏"ماذا سنفعل الآن يا دكتور فؤاد؟" سألت ريتا، وعيناها تحدقان فيّ بترقب.

‏نظرتُ إليها. كانت جميلة، ناضجة، ومحبة. كانت كل ما حلمت به امرأة في حياتي. لكنني كنتُ أعرف أن هذا الكرز جاء في غير أوانه.

‏"ريتا..." قلتُ بصوت متهدج. "أنا الآن في عمر السادسة والستين. أنتِ في أواخر الثلاثينات. العمر ليس مجرد رقم. إنه واقع. واقع يفرض نفسه. أنا رجل قد تجاوزتُ ذروة حياتي. أنتِ في مقتبلها. أنتِ تستحقين رجلًا يشارككِ شبابكِ، ينجب معكِ الأطفال، يبني معكِ مستقبلًا طويلًا."

‏قاطعتني بحزم. "هذا لا يهم يا دكتور. أنا لا أريد كل ذلك. أنا أريدك أنت. أريد أن أكون معك. أن أعتني بك. أن أعيش معك ما تبقى من أيامك."

‏"ولكن يا ريتا، أنا لا أريد أن أكون عبئًا عليكِ. لا أريد أن أكون قيدًا يمنعكِ من عيش حياة كاملة. لا أريد أن تضحي بشبابك من أجلي."

‏شعرتُ بقلبي يتمزق وأنا أقول هذه الكلمات. كنتُ أكذب على نفسي، أحاول إقناعها، وإقناع ذاتي، بأن هذا هو القرار الصحيح. لكنني كنتُ أرغب فيها، أرغب في أن أضمها إلى صدري، أن أعوض كل تلك السنوات الضائعة.

‏"أنت لستَ عبئًا أبدًا يا دكتور. أنتَ نور حياتي. لم أكن سعيدة يومًا إلا معك، حتى ولو كانت لقاءاتنا مجرد لقاءات طالبة وأستاذ."

‏استمرينا في النقاش لساعات. كانت مصرة، وأنا كنتُ أحاول أن أبدو حكيمًا، منطقيًا. كنتُ أحاول أن أضع مصلحتها فوق رغباتي. كنتُ أدرك تمامًا أن العلاقة بيننا، لو تطورت إلى حب معلن، ستواجه رفضًا مجتمعيًا كبيرًا. ستكون هناك همسات، نظرات ازدراء، أحكام قاسية. لم أكن أخشى ذلك على نفسي، لكنني كنتُ أخشى عليها.

‏"ريتا، دعيني أفكر. دعيني أجمع شتات أفكاري. هذا الأمر ليس بالهين."

‏وافقت ريتا على مضض. وعدتني بالاتصال بي في اليوم التالي.

‏عدتُ إلى المنزل تلك الليلة، لم أستطع النوم. أفكار متضاربة تتصارع في رأسي. هل كان لي أن أكون أنانيًا، وأن أتبع قلبي؟ هل كان عليّ أن أقبل هذا الحب المتأخر، وأن أواجه العالم بكل ما فيه؟ أم كان عليّ أن أتحمل مرارة الفراق مرة أخرى، وأحميها من كل الأقاويل والآلام؟

‏في الصباح الباكر، تلقيتُ رسالة من ريتا. "دكتور فؤاد، فكرتُ طويلًا في كلامك. لا أريد أن أكون سببًا في حزنك. مهما كان قرارك، أعرف أنك تفكر في مصلحتي. أريدك أن تكون سعيدًا."

‏كلماتها زادت من حيرتي. ماذا يعني هذا؟ هل كانت تتراجع؟

‏قررتُ أن أتخذ قرارًا حاسمًا. قرارًا مؤلمًا، لكنني كنتُ أظن أنه القرار الصائب.

‏اتصلتُ بها. "ريتا، استمعي إليّ جيدًا."

‏"نعم دكتور." صوتها كان خافتًا، متوجسًا.

‏"أنا... أنا لا أستطيع أن أكون معكِ بالطريقة التي تتمنينها. أنا آسف جدًا. هذه هي الحقيقة. هذا هو الأفضل لكِ. أنتِ تستحقين رجلًا شابًا، يعطيكِ كل ما تتمناه أي امرأة في مثل عمرك."

‏ساد الصمت من الطرف الآخر. صمتٌ ثقيل، مليء بالدموع غير المنطوقة.

‏"أفهم يا دكتور." قالتها بصوت متهدج، يكاد لا يُسمع. "أتمنى لك كل التوفيق."

‏وأغلقت الخط.

‏شعرتُ أن جزءًا من روحي قد اقتُلِع مني. كان قرارًا قاسيا، قاسيًا عليّ قبل أن يكون عليها. لكنني كنتُ مقتنعًا أن هذا هو الطريق الصحيح. طريق يضمن لها مستقبلًا أكثر إشراقًا، بعيدًا عن ظل رجل كبير في السن، لا يملك من الأيام إلا أقلها.

‏مرت الأيام، وتحولت إلى أسابيع، ثم شهور. حاولت أن أعود إلى روتين حياتي القديم. أرقامي، تقاريري، عالمي الجاف. لكن شيئًا ما كان قد تغير. لم أعد أرى الألوان بنفس الوضوح، لم أعد أجد الشغف نفسه في العمل. كل شيء أصبح باهتًا، عديم المعنى.

‏كانت صور ريتا لا تغادر مخيلتي. عيناها اللامعتان، ابتسامتها الساحرة، كلماتها الصادقة. كنتُ أندم على قراري في كل لحظة. هل كان العمر حقًا هو العائق الوحيد؟ أم أنها كانت مخاوفي أنا؟ مخاوفي من المجتمع، من نظرة الآخرين، من حقيقة أنني قد أجد السعادة في هذا العمر المتأخر؟

‏في أحد الأيام، بعد حوالي عام من ذلك اللقاء، كنتُ جالسًا في مكتبي، أحتسي قهوتي المرة كالمعتاد. رنّ الهاتف. رقمٌ غير معروف. ترددّتُ لحظة، ثم أجبت.

‏"ألو؟"

‏"صباح الخير دكتور فؤاد. أنا ريتا."

‏صوتها! كأن الزمان توقف. قلبي بدأ يخفق بقوة.

‏"ريتا! كيف حالك؟"

‏صمتٌ طويل من الطرف الآخر. ثم سمعت صوتًا متهدجًا، بالكاد أستطيع تمييزه. "دكتور فؤاد... أنا... أنا أتصل بك لأنني على وشك الزواج."

‏الصاعقة الثانية. كانت أقوى من الأولى. شعرتُ وكأن أحدهم طعنني في قلبي بسكين بارد. زواج؟ ريتا؟

‏"مبارك يا ابنتي. أتمنى لك كل السعادة." قلتُها بصوتٍ بالكاد أستطيع السيطرة عليه.

‏"أردتُ أن أخبرك بنفسي. أردتُ أن أشكرك على كل شيء. على دروسك، وعلى حكمتك، وعلى... وعلى خوفك عليّ."

‏كان صوتها حزينًا، يحمل مرارة خفية. شعرتُ أنها كانت تبكي.

‏"أنا... أنا سعيدة من أجلك يا ريتا. أتمنى أن تجدي السعادة التي تستحقينها."

‏"شكرًا لك دكتور. وداعًا."

‏وأغلقت الخط.

‏أمسكتُ الهاتف بيدي المرتجفتين، شعرتُ وكأن العالم كله قد انهار من حولي. زواج. ريتا ستتزوج. هي الآن وجدت الرجل الذي كنتُ أتمنى أن تكون معه. الرجل الشاب، الذي يشاركها حياتها.

‏نهضتُ من مقعدي، وتوجهت إلى النافذة. كانت شمس الصيف الحارقة تسقط على المدينة. نظرتُ إلى السماء الزرقاء الصافية، وشعرتُ بمرارة لاذعة تملأ فمي.

‏كانت هذه هي المحطة الأخيرة من قصة حب لم تبدأ أبدًا. حبٌ ولد متأخرًا جدًا، في غير أوانه. حبٌ كان ككرزٍ ناضج في غير موسمه، جميل المظهر، لكنه محكوم عليه بالذبول قبل أن يتذوقه أحد.

‏تذكرتُ كل كلمة قالتها ريتا. كل نظرة. كل لحظة. كانت كلها تحمل علامات لم أقرأها وقتها. لم أجرؤ على قراءتها. كنتُ جبانًا. كنتُ خائفًا. خائفًا من الحب، من السعادة، من المجتمع. خائفًا من أن أُعرّض نفسي أو أُعرّضها للأذى.

‏الآن، بعد فوات الأوان، وبعد أن تواصلتني حين لا ينفع الوصل، أدركتُ حجم خسارتي. خسرتُ فرصة العمر. فرصة حب حقيقي، نقي، لم أكن أجرؤ على الحلم به.

‏كل تلك الأرقام والتقارير التي كانت تملأ مكتبي، أصبحت بلا معنى. كل تلك الإنجازات التي حققتها في حياتي المهنية، بدت وكأنها لا تساوي شيئًا أمام قلبٍ أحبني بصدق، وأنا أبعدته عني بيدي.

‏أصبحت أيامي تمر ببطء شديد. الوحدة أصبحت رفيقي الدائم. كل صباح، أحتسي قهوتي المرة، وأناظر أشعة الشمس، وأتذكر ريتا. أتذكر عينيها، ابتسامتها، صوتها الذي كان يحمل لي الحياة.

‏لم أعد أستطيع العيش في عالم الأرقام والمنطق. لقد أصبحت روحي فارغة. كل ما تبقى لي هو الذكريات، والندم، ومرارة الكرز الذي نضج في غير أوانه، ولم أستطع قط أن أتذوقه.

‏أتخيلها الآن، عروسًا جميلة، مع رجل آخر. تبتسم له، تضحك معه، تبني معه حياتها. وأنا... أنا هنا، وحيدًا، في مكتبي، أحصي الأيام المتبقية لي، وأنا أحمل في قلبي جرحًا لن يندمل. جرح حُبٍّ كان بإمكانه أن يضيء آخر فصول حياتي، لكنني بيدي أطفأت نوره.

‏هذه هي قصتي. قصة الرجل الذي وصلته رسالة حب متأخرة، حين لم يعد ينفع الوصل. قصة الكرز الذي نضج في غير أوانه، وذبل قبل أن يتم تذوق حلاوته.




#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (4)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (3)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (1)
- مدرسة شملان ، كتاب في حلقات (2)
- النظام العالمي - ارتجال بالتصميم
- سقوط النازية وتداعيات الحرب
- عدو ما يجهل: لعنة سوء الفهم
- الطريق إلى دمشق: ما الشيء الذي كاد نتنياهو أن يكشفه للأسد عا ...
- رانديفو: حكاية قلبٍ بريء وقطارٍ فات
- وصايا الضحايا: حكاياتٌ من ركام الكراهية
- قلب روسي حقيقي: ألكسندر دوغين، فلاديمير بوتن والأيديولوجية ا ...
- حرب كشمير المنسية تتحول إلى حرب عالمية
- لورنس العرب يتحدث عن الحرب: كيف يطارد الماضي الحاضر
- أشباح الشرق الأوسط القديم
- لماذا يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير؟
- تواصلني حين لا ينفع الوصل: قصة لم تكتمل
- كرز في غير أوانه: حكاية حب في زمن الحرب
- نعوم تشومسكي، الصوت الصامت، والإرث الذي لا ينتهي
- هاتفها الذي غيّر رحلتي من أمريكا إلى دمشق
- الحب ليس رواية شرقية: رسالة أسمى تتجاوز القيود


المزيد.....




- قاض أمريكي يرفض دعوى ترامب ضد الصحفي بوب ودورد مفجر فضيحة -و ...
- المبعوث الأمريكي يعلن -اتفاق سوريا وإسرائيل على وقف إطلاق ال ...
- السويداء.. بين المطرقة الإسرائيلية والدعم الأميركي للشرع
- إيران تعيد ترتيب أوراقها.. مؤشرات العودة إلى المواجهة
- ترامب: الإفراج عن 10 رهائن إضافيين من غزة قريبا
- روسيا تشن هجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ على أوكرانيا
- مديرة الاستخبارات الأمريكية تتهم مسؤولين بإدارة أوباما بـ-فب ...
- بريطانيا تفرض عقوبات على ضباط استخبارات روس.. وتوجه رسالة إل ...
- ما هي خلفية الأزمة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر؟
- المرصد السوري: السويداء أفرغت من سكانها


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - كرز في غير أوانه2 ، محمد عبد الكريم يوسف