أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - الغربة موت مؤجل في الذاكرة














المزيد.....

الغربة موت مؤجل في الذاكرة


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 11:50
المحور: قضايا ثقافية
    


الغربة ليست سفرًا، ولا مجرد انتقال من بلد إلى آخر بحثًا عن رزق أو طموح. إنها تجربة وجودية، تهزّ كيان الإنسان من جذوره، فتقتلع ماضيه وتشكك في حاضره، وتربك مستقبله. هي أكثر من مسافات تُقطع، وأكثر من لهجات جديدة تُتعلم، وأكثر من أوراق إقامة تُمنح أو تُنتزع. الغربة، في جوهرها، خلعٌ للروح عن تربة الألفة، ودفنٌ بطيءٌ لذاكرة كانت تزهر على بساط الطفولة.

حين يترك الإنسان وطنه، فهو لا يرحل بجسده فقط، بل يغادر أيضًا بقطعة من قلبه، وبجرارٍ من الذكريات. في البداية، يبدو الأمر مغامرة؛ شيئًا من التحدي والكثير من الأمل. لكن شيئًا فشيئًا، تبدأ الجذور بالجفاف. وتبدأ اللغة الأم بالتآكل على أطراف اللسان. يختلط الحنين بالخوف، وتصبح العودة حلمًا مؤلمًا أكثر من كونها راحة مرتقبة.

قال محمود درويش: "الغربة تُعلّمك كيف تشتاق، لكنها لا تُعيد لك ما تشتاق إليه." وهذا تمامًا ما تفعله الغربة: تعلّمك كيف تُقدّر التفاصيل التي كنت تعيشها دون أن تلاحظها — نداء الأم من المطبخ، ضحكة الجار، مواء القط في الزقاق، صوت الأذان حين تمتزج فيه الطمأنينة بالاعتياد.

أما فرانز كافكا، فكتب ذات مرة: "كل ما أملكه هو مسافة بيني وبين الآخرين، وبين ما كنت عليه وما أصبحت." هذا التوصيف الدقيق يلخص حال الغريب بعد سنوات طويلة. فعندما يعود إلى وطنه، يعود مثقلاً بالسنين، وقد صار فيه من الغريب أكثر مما فيه من ابن الوطن. الأماكن تبدلت، الوجوه غابت، والأزقة التي حفظ تفاصيلها، غمرتها الحداثة أو الخراب.

ولعل أصدق من عبّر عن مأساة العودة كان الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، حين قال: "العودة هي شكل من أشكال الحنين، لكنها قد تكون أيضًا أشد خيبة." نعم، إن العودة ليست دائمًا خلاصًا من الغربة، فقد تتحول إلى غربة ثانية، أشد قسوة من الأولى. فأنت هناك على الأقل كنت غريبًا بين غرباء. أما الآن، فأنت غريب بين من كان يجب أن يكونوا أهلك.

لذلك وصف بعض الفلاسفة العودة من الغربة بأنها زيارة إلى مقبرة الذكريات. لا أحد في الانتظار. لا ضحكة كانت تؤنسك، ولا حكاية تُروى كما كانت. الناس رحلوا، البيوت هدّها الزمن، والأصوات خفتت. تشعر كأنك تتصفح ألبوم صور قديم؛ كل شيء فيه ساكن، كل وجه فيه يضحك، لكنك لا تستطيع أن تلمسه. هو الماضي، وأنت الآن مجرد زائر غريب له.

كتب عبد الرحمن منيف في روايته "شرق المتوسط": "الوطن ليس فقط مكانًا تُولد فيه، بل هو المكان الذي إذا غادرته لا شيء بعده يُشبهك." وهذه هي المفارقة القاتلة في الغربة: أنك حين تغادر، تُترك خلفك نسخة منك، تواصل العيش في الذاكرة، وعندما تعود، لا تجدها، ولا تجد نفسك.

وما بين الذهاب والعودة، تفقد شيئًا لا يُسترد. لا تعرف متى ولا كيف، لكنه يتآكل ببطء. تسأل نفسك أحيانًا: هل أنا من تغيّرت؟ أم أن الوطن هو الذي لم يصمد؟ ثم تدرك أن كليهما تغيّر. وأن الغربة، كزمنٍ خفي، تُعيد تشكيل الأشياء كلها: أنت، وهم، والمكان.

هكذا، تصبح الغربة ليس فقط فصلاً من الحياة، بل رواية كاملة. رواية يكتبها الغريب بجسده المُنهك، وروحه المُحمّلة بالأسى، وذاكرته التي تتنازعها صورتان متناقضتان: صورة الوطن كما كان، وصورته كما أصبح. وبينهما، يقف الغريب وحيدًا، مثل شجرة اقتلعت من أرضها، وزُرعت في تربة لا تشبهها.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم والتعلم
- مدينة خلقها العوز واستغلتها السلطة
- الأتفاقيات والمعاهدات والفرق بينهما
- المقاتلون الأجانب في الجيش السوري بين العقيدة العسكرية والان ...
- النظرة الغربية للعقل الأسلامي
- من السلطة الى التسلط كيف يتحول القائد الى مستبد
- قادة دول من المقاومة الى الزعامة
- التغيير الموعود...حين تتحول الشعارات إلى وسيلة للثراء
- من تحت الركام تولد المقاومة
- الانتهازية والاستغلال: سلوكيات مرفوضة تُصنّف ضمن الاحتيال ال ...
- العراق وأزمات المركز والأقليم
- الديمقراطية وتبادل المصالح قرأة ببن الناخب ومن يمثله في التج ...
- العقيدة الأدارية في العراق بين زمن التأسيس وزمن المحاصصة
- مادة الثقافة الجنسية هل أصبحت ظرورة في المدارس؟
- خذ الحكمة من أفواه المجانين
- كلكم خەڵکەکم
- مقابر العراق تتحول الى مسرح لصناع المحتوى
- الأم البديلة واشكالات منح الجنسية للمولود
- التغيب القسري في العراق جريمة مستمرة بين ضعف الدولة وصمت الع ...
- التسامح قوة الأخلاق


المزيد.....




- -وحوش- تُلقّن زوّار عقار ريفي أمريكي دروسًا بيئية.. كيف ذلك؟ ...
- في الحرم المكي ومحيطه.. فيديو قد يصدمك يظهر كيف تتعامل السعو ...
- مأساة على المباشرة.. عابر جنسي تركي ينهي حياته بالقفزة من ال ...
- حريق في كنيس الحاخام يتسحاق يوسف بالقدس والسلطات تشتبه بأنه ...
- غضب في بوغوتا.. إطلاق النار على مرشح رئاسي كولومبي خلال تجمع ...
- ترامب يُرسل 2000 الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس وسط تصاعد الاحت ...
- وزارة الصحة في غزة تفيد بمقتل 95 فلسطينياً خلال اليومين الما ...
- حشيش في حلوى الأطفال.. شركة -هاريبو- تسحب منتج من الأسواق
- عباس وهيثم بن طارق يتبادلان تهاني العيد ويبحثان الوضع في فلس ...
- مصر.. اعتداء وحشي على مسؤول حكومي خلال مهمة في ثاني أيام الع ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - الغربة موت مؤجل في الذاكرة