رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 13:50
المحور:
المجتمع المدني
في قلب بغداد، تنبض مدينة لا تشبه سواها من مدن العراق، لا في نشأتها، ولا في هويتها، ولا في مسيرتها السياسية والاجتماعية. مدينة الصدر، التي بدأت باسم "مدينة الثورة"، ثم سُميت "مدينة صدام"، وأخيرًا "مدينة الصدر"، ليست مجرد حي سكني مترامي الأطراف، بل هي حكاية عراقية مكثفة، كُتبت على مدى عقود بالعرق والفقر والتهميش والتمرّد. لقد نشأت هذه المدينة في أواخر خمسينيات القرن العشرين، بقرار من الزعيم عبد الكريم قاسم، ضمن مشروع إسكاني ضخم هدفه إيواء موجات النازحين من جنوب العراق. هؤلاء القادمون من الأهوار والقرى الفقيرة لم يأتوا إلى بغداد بحثًا عن المدينة فحسب، بل هربًا من واقع قاسٍ فرضه الفقر والإقطاع والحروب والتهميش. افترشوا الأرض في مناطق الصرائف، بنوا بيوتًا من الطين والصفيح، فتشكلت أولى ملامح الكتلة البشرية التي قررت الدولة أن تحتويها عبر بناء وحدات سكنية متراصة على أطراف بغداد الشرقية. كانت مدينة الثورة في بدايتها مشروعًا طموحًا لإعادة تنظيم حياة الفقراء، لكنها كانت في جوهرها أداة لتحديد مكانهم وحركتهم وضبط وجودهم في الحاضرة. توزعت العائلات في قطاعات متجاورة ومتشابهة إلى حد التطابق، فكانت المساحات السكنية محدودة، والخدمات شحيحة، والهوية الاجتماعية قائمة على أساس الانتماء القبلي والعشائري، حيث سكنت كل مجموعة منتمية إلى قبيلة أو منطقة جنوبية محددة في حي أو قطاع خاص بها. هذا التكوين الاجتماعي المتراص، القادم من عمق البيئة الريفية، حافظ على ملامحه رغم انتقاله إلى المدينة. بقي العرف العشائري هو المرجع الأساسي في حل النزاعات، وبقيت الروابط العائلية قوية، والقبيلة حاضرة في كل تفاصيل الحياة اليومية. ورغم اقترابهم جغرافيًا من مركز الدولة، ظل سكان المدينة بعيدين عن الاندماج الكامل في المجتمع البغدادي المديني، فكانوا يتعلمون الحياة الحضرية من جهة، ويتمسكون بموروثهم الجنوبي من جهة أخرى، لتنشأ لديهم هوية هجينة تجمع بين ملامح الريف ولهجة الجنوب، وبين تفاصيل الحياة المدينية المضغوطة بالفقر والاكتظاظ. وقد كانت نظرة المجتمع البغدادي التقليدي إليهم قبل عام 2003 مليئة بالتحفّظ والتوجس، إذ وُصِفوا بأنهم غرباء على المدينة، لا يشبهون أهل بغداد بطباعهم أو لهجتهم أو ملبسهم أو سلوكهم، وكان يُنظر إليهم كطبقة غير متمدنة، تُتّهم أحيانًا بالعنف والعشوائية وحتى الجهل. ومع أن هذه النظرة كانت غالبًا متعالية وغير عادلة، فإنها تكرست بفعل الانفصال الطبقي والثقافي بين سكان مدينة الصدر وأهل بغداد في مناطقها الوسطى والغربية، حيث ظلت الفروق واضحة في فرص التعليم ونوعية الحياة وأنماط التفكير، وكان كثير من سكان بغداد ينظرون إليهم كقوة بشرية ضخمة لكنها غير منضبطة، وخارج الإطار الاجتماعي الذي تعودوا عليه. كانت فرص العمل محدودة للغاية، فامتهن السكان أعمالًا هامشية؛ من بيع النفط والغاز بواسطة عربات الخيول، إلى أعمال البناء والنجارة والبيع المتجول. ولم تكن تلك المهن مجرد وسائل لكسب الرزق، بل أصبحت لاحقًا سمة مميزة للمدينة وسكانها، حتى أن بعضها ارتبط اجتماعيًا باسم المدينة وصار يُنسب إليها. أما التعليم فظل لفترة طويلة ترفًا لا تقدر عليه كثير من العائلات، فخرجت أجيال بأكملها لا تتقن سوى ما تمليه الحاجة اليومية. ومع ذلك، لم تكن المدينة خاملة أو هامشية، بل سرعان ما تحولت إلى بيئة حاضنة للتنظيمات السياسية المعارضة، وخصوصًا اليسارية والإسلامية، وهو ما جعلها دومًا تحت مجهر الأنظمة الحاكمة. فبينما اعتبرها عبد الكريم قاسم رمزًا للعدالة الاجتماعية، نظر إليها نظام البعث بعين التوجس والخوف، خصوصًا بعد أن بدأت تشهد حركات احتجاج وتمرد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ولما جاءت تسعينيات الحصار، ازداد الفقر وتعاظم الغضب الشعبي، ما جعل المدينة تتحول إلى بركان اجتماعي ينتظر الانفجار. بعد سقوط النظام في عام 2003، لم تعد المدينة مجرد تجمع سكني، بل تحولت إلى مركز ثقل سياسي واجتماعي، وصارت المعقل الرئيس للتيار الصدري، وخرج منها جيش المهدي، وشهدت أزقتها معارك دامية مع الاحتلال الأمريكي، ثم لاحقًا مع القوات الحكومية. أصبحت المدينة صاحبة قرار انتخابي، وقوة لا يمكن تجاوزها في أي معادلة سياسية، وصارت الحكومات تتودد لها، تارة بالخدمات، وتارة بالمناصب، لكنها ظلت عصيّة على الاحتواء الكامل. وقد بدأ تأثير سكان مدينة الصدر على المجتمع البغدادي يظهر بشكل واضح، ليس فقط من الناحية السياسية، بل في تفاصيل الحياة اليومية. فقد انتشر حضورهم المهني في شوارع وأسواق العاصمة، من أصحاب البسطات إلى سائقي "الستوته"، ومن عمّال البناء إلى مزوّدي الطاقة والخدمات غير النظامية. هذا الوجود الاقتصادي خلق حالة من التداخل بين المدينة وسائر أحياء بغداد، مما منحهم وزنًا في السوق والعمل، لكنه في الوقت نفسه أثار حساسيات اجتماعية. من الناحية الإيجابية، أعادوا ملء الفراغات في سوق العمل التي خلفتها الحروب والتهجير، فساهموا في إنعاش قطاعات عديدة، وأثبتوا قدرتهم على التكيّف والبقاء في أقسى الظروف. كما أسهمت طبقة من أبنائهم، خصوصًا المتعلمين والمهنيين، في خدمة الدولة ومؤسساتها، من التعليم إلى الطب إلى الشرطة والجيش. وبعد عام 2003، تغيّرت نظرة الكثير من البغداديين إلى سكان مدينة الصدر، ليس بالضرورة إلى الأفضل دائمًا، بل نحو الاعتراف بحجم تأثيرهم. فصاروا يُحسب لهم حساب في كل قرار، وأصبح حضورهم طاغيًا في الشارع، يتجلى في اللباس واللهجة والحضور السياسي والديني. بدأت الطبقة السياسية والإعلامية تسعى لاسترضائهم أو استغلالهم، وصار يُنظر إليهم بوصفهم القوة القادرة على ترجيح الكفة في الانتخابات أو الحركات الاحتجاجية. ومع ذلك، لم تختف النظرة السلبية بالكامل، بل بقيت صور نمطية تعيد تكرار نفسها، حول الفوضى والعنف والتهور، وهي نظرة ظالمة في كثير من الأحيان، لكنها تجد من يغذيها بفعل بعض السلوكيات المتطرفة، أو المظاهر غير المنضبطة التي تظهر حين تفشل الدولة في فرض القانون أو توفير الخدمات. لقد كان هذا التأثير بعد 2003 مزدوجًا؛ فقد ساهم في فرض طبقة شعبية جديدة على الحياة البغدادية، فرضتها الضرورة والتاريخ، لكنها اصطدمت أحيانًا بعدم قدرتها على الانصهار الكامل في المدينة، فبقيت مدينة الصدر كيانًا مستقلًا له ثقافته، وأسلوبه، ونفوذه. وفي خضم هذا كله، ظل اسم المدينة يتغير مع كل نظام، في محاولة لفرض هوية جديدة تتناسب مع السلطة القائمة. فعبد الكريم قاسم ربطها بالثورة، وصدام حسين ربطها باسمه، وبعد 2003، أراد التيار الصدري أن يربطها باسم المرجع الشهيد محمد محمد صادق الصدر. ولم يكن تغيّر الاسم ترفًا أو صدفة، بل كان انعكاسًا لمحاولة السيطرة على هوية المدينة، وفرض سردية جديدة عليها. لكن المدينة في كل مرة، تخلع الاسم القديم وتتبنّى الاسم الذي يشبهها، لأنها ليست حيًا سكنيًا فقط، بل كيان اجتماعي متكامل، له وعيه الخاص، وله تاريخه وذاكرته، وله طريقة في التعبير عن ذاته. إنها المدينة التي صنعتها الحاجة، وشكلتها السلطة، لكنها بقيت عصيّة على الذوبان في أي مشروع سلطوي، ولهذا، تتغير أسماء المدن في العراق، لكن قلّما كانت مدينةٌ واحدة تتغير أسماؤها بهذا الشكل، لأن قلّما وُجدت مدينة تشبه مدينة الصدر، بكل ما فيها من حياة، وصراع، وتناقض، وعناد.
#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)
Raheem_Hamadey_Ghadban#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟