أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - خذ الحكمة من أفواه المجانين














المزيد.....

خذ الحكمة من أفواه المجانين


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 12:58
المحور: قضايا ثقافية
    


العبارة الشائعة "خذ الحكمة من أفواه المجانين" قد تبدو للوهلة الأولى مجرد مثل شعبي ساخر، لكنها في عمقها تحمل دلالة فلسفية عميقة تستدعي التأمل وإعادة التفكير في مفاهيم العقل، الجنون، والحكمة. فكيف يمكن لمجنون — بحسب المفهوم السائد — أن يكون مصدرًا للحكمة؟ أليست الحكمة نتيجة للتفكير السليم والعقل الراشد؟ أم أن ما نُطلق عليه جنونًا ليس دائمًا كما نظنه، وربما يخفي وراءه شكلاً آخر من أشكال الوعي؟

لفهم هذا التناقض الظاهري، لا بد أن نعيد النظر في مفهوم "الجنون" ذاته. هل هو خلل جسدي في الدماغ، أم اضطراب نفسي ناتج عن ظروف اجتماعية قاسية، أم هو، كما ذهب بعض الفلاسفة، حالة وعي تتجاوز العقل المألوف؟ في الطب النفسي الحديث، يُنظر إلى الجنون غالبًا بوصفه اضطرابًا عقليًا قابلاً للتشخيص والعلاج، مثل الفصام أو الهوس أو الذهان. لكن هذه النظرة الطبية لا تفسر لنا تمامًا لماذا ارتبط "الجنون" عبر التاريخ بالإلهام، والرؤى الخارقة، والحكمة غير المألوفة.

في التراث الفلسفي، تناول كثير من الفلاسفة هذا التوتر بين الجنون والحكمة. أفلاطون، في حواراته، أشار إلى نوع من "الجنون الإلهي" (divine madness) الذي يصيب الشعراء والعشاق والفلاسفة والمتصوفة، ويجعلهم يرون ما لا يراه الآخرون. هذا النوع من الجنون، في رأيه، أرقى من العقلانية الباردة، لأنه يُفتح أبوابًا للمعرفة لا يبلغها الإنسان بالعقل وحده. كذلك رأى نيتشه أن الجنون أحيانًا يكون الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل التحرر من القيود الاجتماعية والفكرية. في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، يصف كيف أن الحقيقة لا تُقال إلا على لسان من يعتبرهم المجتمع "مجانين"، لأنهم تجاوزوا منظومة القيم التقليدية.

أما ميشيل فوكو، الفيلسوف الفرنسي، فقد قدم في كتابه "تاريخ الجنون" رؤية نقدية لمفهوم الجنون، معتبرًا أن ما يُعد "جنونًا" هو في كثير من الأحيان حكم اجتماعي على من يخرج عن المألوف أو يهدد استقرار النظام السائد. بحسب فوكو، تم استخدام مفهوم الجنون لعزل الأصوات المختلفة، وليس بالضرورة لأنها مريضة، بل لأنها مزعجة أو غير مفهومة في سياقها.

في هذا السياق، تصبح عبارة "خذ الحكمة من أفواه المجانين" دعوة إلى الإنصات إلى الأصوات المهمشة، تلك التي لا تتحدث بمنطق الجمهور، لكنها في كثير من الأحيان ترى بوضوح ما يعجز العقل الجماعي عن إدراكه. فالمجنون — أو من يُنظر إليه كذلك — قد يكون صاحب رؤية خارجة عن المألوف، لا يُقيدها الخوف الاجتماعي أو التفكير النمطي، وقد ينطق بما يخفيه العقلاء تحت أقنعة المجاملة أو الخوف أو المصلحة.

الجنون، إذًا، ليس حالة واحدة. إنه طيف واسع تتداخل فيه العوامل النفسية، والبيئية، والفكرية، بل وحتى الفلسفية. بعضه مرض يستدعي العلاج، وبعضه تمرد يستحق الاحترام، وبعضه وعي متقدم لم يستطع المجتمع احتواءه بعد. وربما، كما قال دوستويفسكي، "أحيانًا يكون الإنسان أذكى الناس لأنه يتحدث بلغة لا يفهمها سواه"، فيُظن به الجنون.

في النهاية، فإن المجنون لا يُهمَل لأنه بلا معنى، بل لأن معناه يتجاوزنا. وفي عالم تسوده الصيغ الجاهزة والمعايير الثابتة، قد تكون الحكمة كامنة في اللاعقلاني، في المرفوض، في المهمش — في فم من ننعته بالمجنون.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلكم خەڵکەکم
- مقابر العراق تتحول الى مسرح لصناع المحتوى
- الأم البديلة واشكالات منح الجنسية للمولود
- التغيب القسري في العراق جريمة مستمرة بين ضعف الدولة وصمت الع ...
- التسامح قوة الأخلاق
- الأبادة الجماعية
- العقل الباطن
- المقاومة بين شرعية التحرر وتهمة الأرهاب
- تقبض من دبش
- الطبع والتطبع ببن الفطرة والأكتساب
- الثراء نعمة ام نقمة؟
- الرأي العام
- الحقيقة الثابتة
- الأحتيال المالي
- طرق الوصول إلى السلطة
- الوعد والعهد هل مازال من يعمل بهما
- الأنتحار بين الجريمة والظاهرة والمرض
- بكاء الجوع
- الصداقة بين الأمس واليوم
- القمم العربية مابين قمة دمشق وقمة بغداد


المزيد.....




- باللغتين الإسبانية والإنجليزية.. أول تصريح لرئيس فنزويلا عن ...
- سجال لبناني إسرائيلي عقب اجتماع -نادر- لمتابعة الهدنة
- مقتل 5 فلسطينيين على الأقل وإصابة آخرين في قصف إسرائيلي على ...
- هل -وثقت- إيران لحظات تدمير الجيش الإسرائيلي مواقع عسكرية عل ...
- مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني ...
- عاجل| مادورو: الاتصال مع الرئيس ترامب يمكن وصفه بالودي والمب ...
- ترامب: الصوماليون دمّروا أمريكا.. وإلهان عمر -كارثة-
- كأس ألمانيا.. بايرن يواصل الزحف وشتوتغارت يحافظ على الحلم
- -تانغو- السياسة.. ترامب يكشف -رغبة- بوتين في إنهاء حرب أوكرا ...
- -ألفا بوت 2- روبوت ذكي يتعلم من البشر كالأطفال


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - خذ الحكمة من أفواه المجانين