أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - العقل الباطن














المزيد.....

العقل الباطن


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 14:57
المحور: الادب والفن
    


في أقصى شمال السويد، حيث لا شيء يُسمَع سوى صرير الثلج تحت الأقدام وأنفاس الريح التي تجوب الغابات الصامتة، كان هاشم يعيش وحده في بيت خشبي صغير. بلغ الخامسة والخمسين، لكنه بدا أكبر من عمره بسنوات، ليس من تعب الجسد، بل من أثقال الذاكرة.

هاشم الذي جاب طريق المنفى منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، لم يأتِ من مدينة كبيرة أو عاصمة صاخبة، بل من قلب الأهوار، من قضاء الجبايش في الجنوب العراقي، حيث الماء والقصب، والصمت العميق، وحكايات الجدات التي كانت تُروى على ضوء فانوس خافت في ليالٍ بلا كهرباء.

كان يردد دومًا: "أحِنّ حتى للطين الذي كان يلتصق بنعالي هناك."
لكن المدينة التي استقبلته في شمال أوروبا لم تكن تعرف الطين، ولا الرطوبة، ولا اللهجة التي اعتاد أن ينادي بها أصدقاء طفولته.

في ذلك الصباح الشتوي، انقطعت الكهرباء عن المنزل فجأة. لم يكن الأمر شائعًا، فالسويد بلد لا ينسى الكهرباء. لكن ما حدث تلك اللحظة كان كافيًا ليوقظ داخله شيئًا غائرًا، غائبًا، كأن الباب فُتح فجأة على زمن آخر.

هبَّ من مكانه، صرخ من دون أن يشعر:
"هاي شلون وياك عبيد؟!"

كانت الجملة باللهجة الجنوبية العراقية، و"عبيد" لم يكن أحد جيرانه في السويد، بل عاملًا بسيطًا كان في الجبايش مسؤولًا عن تشغيل المولدة التي كانت تنير بيوت الناس ست ساعاتٍ فقط في الليل. كان هو من يقرر متى تُضاء البيوت ومتى تعود إلى الظلام.

ضحك هاشم بصوت عالٍ، كأن عبيد ما زال واقفًا أمامه يرتدي دشداشة قديمة، ثم فجأة... انهار بالبكاء.

دقائق مرت قبل أن يدخل ابنه، الطبيب الذي يعمل في مشفى بجنوب البلاد، جاء في زيارة قصيرة للاطمئنان. وجد والده جالسًا في عتمة خفيفة، يضحك ويبكي معًا، فسأله بقلق:
"بابا، شنو صاير؟!"

مسح هاشم دموعه، ابتسم بمرارة، ثم قال:
"مع الأسف صرت أنس... يمكن هذا الزهايمر مثل ما يقولون..."

ضحك الابن وربت على كتف والده بلطف:
"لا يا أبي، هذا مو زهايمر... هذا هو العقل الباطن."

سكنت الغرفة للحظة. نظر هاشم في عيني ابنه، وكأنه يسمع الكلمة للمرة الأولى.

تابع الابن حديثه:
"العقل الباطن هو ذاك الجزء من وعينا اللي ما نشعر بيه، بس يظل يخزن كل شيء نمر بيه... الذكريات، الأصوات، الروائح، حتى لهجتنا وأصدقائنا. يوم تصير صدمة صغيرة – مثل انقطاع الكهرباء – ينفتح باب من هالأبواب، ونرجع نعيش اللحظة وكأنها صارت هسه."

كان هاشم يصغي، يبتسم بهدوء، كأنه يتذوق الكلمة أكثر من سماعها.

أردف الابن:
"هاي مو حالة مرضية... هذا حنين. الحنين مو بس شعور، هو ذاكرة متغلغلة داخل دماغنا، والإنسان مهما عاش برا يبقى داخله طفل مربوط بأول مكان شاف فيه الضوء."

تنهد هاشم، وقال بصوت متهدج:
"أنا عبالي نسيت، بس يمكن ما نسيت... يمكن الوطن ما يطلع من الروح، حتى لو طلعنا منه."

في تلك اللحظة، لم يكن في البيت نور، لكن القلوب كانت مضيئة بوهج الكلام.
جلس الاثنان صامتين. خارج النافذة، كان الثلج يهطل بهدوء، يغطي العالم بلونه الأبيض. أما في الداخل، فقد عاد الضوء من جديد، لكن ليس من الكهرباء، بل من ذاك الدفء الذي لا يُولد إلا حين يلتقي الإنسان مع نفسه التي خبأها طويلاً في أعماق عقله الباطن.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقاومة بين شرعية التحرر وتهمة الأرهاب
- تقبض من دبش
- الطبع والتطبع ببن الفطرة والأكتساب
- الثراء نعمة ام نقمة؟
- الرأي العام
- الحقيقة الثابتة
- الأحتيال المالي
- طرق الوصول إلى السلطة
- الوعد والعهد هل مازال من يعمل بهما
- الأنتحار بين الجريمة والظاهرة والمرض
- بكاء الجوع
- الصداقة بين الأمس واليوم
- القمم العربية مابين قمة دمشق وقمة بغداد
- دفتر ابو الثلاثين
- بين قوسين من الصمت
- التقارب السعودي التركي الى أين؟
- أخر المحطات
- دمشق وبغداد والتوجه الأمريكي
- غياب العراق عن القمة الخليجية الأمريكية الأسباب والتداعيات
- نجاح الدبلوماسية السعودية


المزيد.....




- من -ستري- إلى -لاباتا لايديز-.. صعود بطيء للسينما النسوية في ...
- الكاميرا الذهبية بمهرجان كان لفيلم عراقي عن صدام.. ما قصته؟ ...
- -مفكرة عابر حدود-.. حكايات مأساوية وسخرية سوداء من واقع الهج ...
- -حادث بسيط- ظفر بالسعفة الذهبية.. هكذا توهجت السينما الإيران ...
- -كعكة الرئيس- أول فيلم عراقي على مائدة مهرجان كان السينمائي ...
- مهرجان كان 2025: فيلم -مجرد حادث- للمخرج الإيراني جعفر بناهي ...
- -لكمة سينمائية-.. تشيزني يضرب ليفاندوفسكي ويسقطه أرضا (فيديو ...
- الشعب السوري وثقافة رفض التطبيع
- محمد لخضر حمينة... المخرج الذي -فتح عيون العالم- على معاناة ...
- محافظة خوزستان الإيرانية: بوابة التجارة والثقافة


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - العقل الباطن