أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - دفتر ابو الثلاثين














المزيد.....

دفتر ابو الثلاثين


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 08:01
المحور: الادب والفن
    


لم تكن سعاد تتوقع أن تجد نفسها يومًا تعود إلى بيت طفولتها في بغداد، بعد كل تلك السنوات التي مضت.
ثلاثة عقود مرت منذ غادرت هذا الدار العتيق، حين خطت أولى خطواتها نحو حياة جديدة كزوجة لحسن، موظف الموانئ الهادئ، الذي نقلها من شوارع الكرادة إلى أزقة البصرة الجنوبية.

في البصرة، كان كل شيء مختلفًا: اللهجة، الوجوه، البحر الذي لا يُرى ولكن يُشمّ.
تعلّمت سعاد كيف تبدأ من جديد. أصبحت "البغدادية" بين جيرانها، تُعرف بابتسامتها وسلاسة حديثها.
أنجبت ثلاث بنات وولدًا، وغزلت من تفاصيل الحياة البسيطة سعادة تشبه الخبز الحار وشاي المساء.

لم يكن حسن كثير الكلام، لكنه كان حنونًا بطريقته. ذات يوم، وضعت سعاد شتلة ريحان قرب شباك البيت، وحين نمت قليلاً، وجدت ورقة صغيرة دسّها حسن تحت القنينة المجاورة، كتب فيها:
"سعاد، البيت من غيرچ ما بيت... والريحان من غيرچ ما يگبر."

هكذا كانت حياتها: كلمات قليلة، لكنها صادقة.

وفي صباحٍ رمادي، خرج حسن لإنهاء معاملته التقاعدية.
ارتدى بدلته، قبّل أبناءه، وقال ضاحكًا:
"راح أرجع قبل ما يبرد الغدا."
لكنه لم يرجع.

دهسته شاحنة يقودها رجل مخمور. مات في مكانه.

الفقد لا يستأذن.
يأتي بلا موعد، كريحٍ تغلق الأبواب وتكسر النوافذ في قلبٍ لم يكن مستعدًا.

أمام هول المصيبة، لم تصرخ سعاد، لم تنهَر. جمعت أبناءها، رتّبت حاجاتها، وقررت العودة إلى بغداد.
لم يكن لهم بيت هناك، فكان الملجأ الوحيد هو دار العائلة التي هجرتها منذ زواجها.

في ذلك البيت، لم يبقَ سوى فاطمة، أختها الصغرى، التي لم تنجح في أي من زيجاتها الثلاث.
استقبلت فاطمة أختها بحنين قديم، وتشاركتا معًا وجع الحنين والوحدة.

"خل نرتّب البيت، نرمي الأغراض القديمة"، قالت فاطمة ذات مساء.

في ركنٍ من "البيتونة"، حيث كانت سعاد تخبئ دفاترها وذكرياتها، وجدت حقيبة جلدية غطاها الغبار.
فتحتها بفضولٍ حذر، كمن يفتح رسائل من ماضٍ بعيد، وهناك... وجدت دفترًا أزرق صغيرًا، مكتوب عليه: "٣٠ ورقة".

"أبو الثلاثين!"، قالت وهي تضحك.

بدأت تقلب صفحاته واحدة تلو الأخرى. خطها الطفوليّ يروي أحلامًا مراهقة:
"أريد أصير طبيبة."
"أريد أشتري سيارة وردية."
"أكره الرياضيات."
"أحب أغاني فيروز."

صفحات ممتلئة بضحكات القلب، برسائل إلى صديقات المدرسة، وخواطر موجهة إلى "سعاد المستقبل".

كانت فاطمة تحاول خطف الدفتر، لكن سعاد ضمّته إلى صدرها، ثم قالت بابتسامة باهتة:
"بعدني ما خلّصت، هذا أكثر من دفتر... هذا آني."

ثم وصلت إلى الصفحة الأخيرة.

توقفت.

كان هناك سطر بخطّها القديم، لكنّه كان مختلفًا:

"إلى سعاد المستقبل...
إذا وصلتي لهالصفحة، فمعناها كبرتي.
بس أريدج تضحكين، حتى لو القلب تعبان،
وتكتبين، حتى لو الكلمات ضاعت،
وتتذكرين: آني چنت أحبج،
وچنت أعرف إنج راح تكبرين وتعيشين،
حتى لو صار اللي صار.
لا تنسين روحچ... لا تنسين سعاد."

تجمّدت الكلمات في عينيها، ثم انهمرت دموع صامتة.

قرأت الرسالة مرة، ثم مرة أخرى، ثم همست:
"ما نسيتچ... بس نسيت آني منو چنت."

في تلك اللحظة، لم تكن تبكي على ما مضى، بل كانت تعود إليه، تمسك بيد طفلتها القديمة، وتهمس في أذنها:
"راح أبدأ من جديد."

ثم أغلقت الدفتر بلطف، وقبّلته، ووقفت.
شعرت بشيء يتحرك في داخلها — شيء يشبه الحياة.

وكتبت على غلاف الدفتر من جديد:

"وما ضاقتْ الحياةُ على امرئٍ
إلا وفتحَ اللهُ بابًا لم يُحسب."



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين قوسين من الصمت
- التقارب السعودي التركي الى أين؟
- أخر المحطات
- دمشق وبغداد والتوجه الأمريكي
- غياب العراق عن القمة الخليجية الأمريكية الأسباب والتداعيات
- نجاح الدبلوماسية السعودية
- التيارات القومية العربية من جديد
- حزب العمال الكردستاني يحل نفسه هل هو ارادة قومية ام ضغوط أقل ...
- تقنية ال-VAR-هل سرقت المتعة من كرة القدم؟
- التمييز العنصري
- التفكك الأسري في المجتمعات المعاصرة
- فن الحديث
- العلاقات الأيرانية السعودية بداية تحول إقليمي قبيل المفاوضات ...
- الحرب الهندية الباكستانيه هل هي أنتصار للصناعة الجوية الصيني ...
- فيما اذا تغير أسم الخليج
- الوعود الأنتخابية في العراق بين الديمقراطية الوليدة وخيبة ال ...
- السكن العشوائي ومسؤولية التنظيم مقارنة بين الواقع المصري وال ...
- الأخلاق بين زمن العالم الرقمي والأزمنة السابقة
- الفساد الأداري بين الفجور والتقوى
- التسول بين الفرد والدولة ...


المزيد.....




- عامان على حرب الإبادة في غزة: 67 ألف شهيد.. وانهيار منظومتي ...
- حكم نهائي بسجن المؤرخ محمد الأمين بلغيث بعد تصريحاته عن الثق ...
- مخرج «جريرة» لـ(المدى): الجائزة اعتراف بتجربة عراقية شابة.. ...
- الجديد : مجموعة شعرية لمصطفى محمد غريب ( لحظات بلون الدم )
- أصيلة تكرم الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الوزاني.. ناحت ...
- المصري خالد العناني مديرًا لليونسكو: أول عربي يتولى قيادة ال ...
- -نفى وجود ثقافة أمازيغية-.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ ...
- عودة الثنائيات.. هل تبحث السينما المصرية عن وصفة للنجاح المض ...
- اختفاء لوحة أثرية عمرها 4 آلاف عام من مقبرة في سقارة بالقاهر ...
- جاكلين سلام في كتابها الجديد -دليل الهجرة...خطوات إمرأة بين ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - دفتر ابو الثلاثين