رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)
الحوار المتمدن-العدد: 8339 - 2025 / 5 / 11 - 12:43
المحور:
المجتمع المدني
منذ القدم، أدرك الإنسان أن الكلمة ليست مجرد صوت عابر، بل أداة تأثير قد ترفع صاحبها إلى القمم أو تهوي به إلى القاع. ولعل الموروث الشعبي العربي عبّر عن ذلك ببلاغة حين قال: "مقتل المرء بين فكيه" و*"لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك"*. فالكلام مرآة العقل والخلق، وسلاح ذو حدين.
الحديث ليس عشوائيًا ولا ارتجاليًا كما يظن البعض، بل هو فنٌ راقٍ، له قواعده وسياقاته. فكل موقف يقتضي أسلوبًا معينًا، وكل متلقٍ يحتاج لغة تناسبه، وكل موضوع يستوجب قدرًا من التقدير والتروي. لذلك فإن الحديث المسؤول يُبنى على الإدراك الواعي لمكانة الكلمة، وعلى فهم دقيق لموقعها وزمانها.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة بوضوح في قوله تعالى:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]،
في إشارة إلى أن كل كلمة ينطق بها الإنسان خاضعة للمراقبة والمحاسبة.
ويعزز النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله:
"وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" [رواه الترمذي]،
في تحذير شديد من خطورة إطلاق اللسان دون ضوابط، وضرورة التمهل والتفكر قبل الحديث.
هذا المفهوم لم يكن حكرًا على الإسلام، بل نجده واضحًا في الكتب السماوية الأخرى. ففي الإنجيل ورد:
"اللسان نار، عالم الإثم... يدنس الجسد كله." [يعقوب 3:6]،
وفي التوراة نقرأ:
"الجواب اللين يصرف الغضب، والكلام الموجع يهيج السخط." [سفر الأمثال 15:1].
وفي التاريخ شواهد لا تُحصى عن أشخاص قتلهم لسانهم، وآخرين رفعتهم كلماتهم.
فمن أمثلة الكلمة التي قتلت صاحبها، ما فعله الشاعر الحطيئة حين هجا أحد وجهاء قومه هجاءً لاذعًا، فنُفي من قبيلته وكاد يُقتل لولا شفاعة عمر بن الخطاب. وكذلك ما حدث مع أبي الطيب المتنبي، الذي قُتل بسبب بيت قاله يهجو فيه أحد خصومه:
"الخيل والليل والبيداء تعرفني... والسيف والرمح والقرطاس والقلم"،
فرد عليه خصمه بالسيف كما رد هو بالكلمة.
وفي المقابل، هناك كلمات رفعت أصحابها وسجّلت أسماءهم في التاريخ، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة يوم الفتح:
"اذهبوا فأنتم الطلقاء"،
كلمة عَفْوٍ عظيمة فتحت بها القلوب بعد أن كانت مغلقة، وثبتت بها دعائم السلام بعد حرب.
وفي العصر الحديث، كلمات مثل خطاب مارتن لوثر كينغ: "I have a dream..." لم تكن مجرد جملة، بل فتحت طريقًا لنضال كامل من أجل الحقوق المدنية، وغيرت مجرى تاريخ أمريكا.
إن الكلمة إذا خرجت من فم صاحبها لا تعود، لكنها قد تبني أمة أو تهدم بيتًا، تحرّك جيوشًا أو توقد فتنًا، تواسي حزينًا أو تذلّ بريئًا. لذلك كان فن الحديث من أرقى المهارات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، لا ليتكلم أكثر، بل ليصيب المعنى، ويزن كلماته بميزان الحكمة والعقل.
في زمن تتزايد فيه وسائل الاتصال، يبقى التحدي الأكبر هو كيف نتحدث؟ لا كم نتحدث؟ فالكلمة أمانة، ومن أتقن فن الحديث، فقد ملك مفتاح القلوب والعقول.
#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)
Raheem_Hamadey_Ghadban#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟