عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 22:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ينقلنا الدكتور سفيان التل في كتابه "الهيمنة الصهيونية على الأردن" إلى واحدة من أخطر تبديات هذه الهيمنة، ونعني أطماع العدو الصهيوني للسيطرة على البترا.
البترا أو المدينة الوردية، كما نحب تسميتها، درة تاج المواقع التاريخية والأثرية في بلادنا. وقد أُدرجت على لائحة التراث العالمي التابعة لليونيسكو عام 1985، وفازت بعد أن صُنِّفت ثاني عجائب الدنيا السبع الجديدة، في المسابقة العالمية المتعلقة بهذا الشأن من بين 23 موقعًا رُشحت للمشاركة في المسابقة. تقع في لواء البترا التابع لمحافظة معان، على بعد حوالي 225 كيلومترًا جنوب العاصمة الأردنية عمان.
كانت البترا عاصمة دولة الأنباط العرب، وأهم مدن مملكتهم (400ق.م- 106م). وقد أتاح موقعها على طريق الحرير وفي قلب حضارات ما بين النهرين وفلسطين ومصر واليونان، للأنباط الإمساك بزمام التجارة في هذه المناطق.
البترا تحفة حضارية ولوحة خالدة دائمة التوهج ببراعة العرب الأنباط في نحت الصخر، وقد أظهروا جُل إبداعاتهم المتميزة حتى بمعايير الحاضر في الري والزراعة. للمدينة الوردية طريق يُدعى السيق، وهو شق هائل في الصخر الطبيعي، بارتفاع 80 مترًا، ويتراوح عرضه بين 3- 12 مترًا، وطوله 1200 متر. السيق هو الطريق المؤدي إلى مدينة البترا، ويلفت أنظار الزائرين قنوات المياه على جانبيه. وينتهي السيق بالخزنة، اللوحة الفنية المنحوتة في الصخر بعرض 30 مترًا وارتفاع 43 مترًا. وقد نُحتت لتكون قبرًا لأحد ملوك الأنباط، هو الحارث الرابع على الأرجح. وعلى مقربة من الخزنة هناك المسرح، والمدرج المنحوت في الصخر بقطر 95 مترًا وارتفاع 23 مترًا، ويتسع لحوالي عشرة آلاف متفرج. ويحيط بالمدرج معابد وشوارع ومقابر عديدة، وغيرها من مكونات المدنية بشروط تلك الأزمنة.
أبدع الأنباط في الزراعة والري، وكانوا أول من استخدم الري بالتنقيط، واستعملوا الجرار لهذا الغرض، فزرعوا صحراء النقب بالتنقيط ووضعوا جرة على كل غرسة.
يرى الدكتور التل أن اتفاقية وادي عربة (1994) قد فتحت الطريق لمستعمري فلسطين إلى البترا الأردنية، فأصبحوا يدخلونها من دون تأشيرة ومن دون ختم جوازات سفر. ويورد نص البند الأول من المادة التاسعة في هذه الإتفاقية المشؤومة على الأردن والأردنيين، ومفاده: "سيمنح كل طرف للطرف الآخر حرية الوصول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية". بعد ذلك يتساءل المؤلف: هل بيعت البترا كما بيعت شركات الفوسفات والاسمنت والاتصالات والميناء وأراضي العقبة والبحر الميت والعبدلي ومباني القيادة العامة و...؟!
يورد التل ما يرى أنه اعتداء خطير على السيادة الأردنية، ويقصد تسويق الشركات الاسرائيلية للبترا على أنها جزء من اسرائيل، وبكل وقاحة تضع كلمة "اسرائيل" فوق صور الخزنة في البترا. هذا السلوك العدواني يستدعي تحرك الأردن الرسمي، وقطع العلاقة مع العدو، أو استدعاء السفير الأردني في تل الربيع المحتلة، أو حتى تقديم احتجاج، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. والتزمت الحكومة الأردنية الصمت بإزاء منشور دعائي سياحي اسرائيلي لزيارة البترا الأردنية، بحسبانها "جزءًا من اسرائيل" !!!
ويقول المؤلف إنه ارتأى طرح الموضوع للإعلام العربي مبكرًا، وقبل فوات الأوان، واختار لذلك البرنامج الأشهر في قناة "الجزيرة" ويعني "الإتجاه المعاكس". ويستطرد في السياق ذاته قائلًا:" في حلقة برنامج الاتجاه المعاكس بتاريخ 1 تشرين الثاني 2011، طرحت على محاوري، وهو من كبار ضباط المخابرات الأردنية ونائب في البرلمان، سؤالًا واضحًا: بعد اتفاقية وادي عربة فتحت اسرائيل طريقًا إلى البترا، اليهود يدخلون البترا من دون تأشيرة ومن دون ختم جواز السفر، هل بيعت البترا لهم؟
واكتفى محاوري، والكلام للمؤلف، بالقول: هذا كلام غير صحيح.
ولتبرير أطماعهم في البترا، يلجأ مستعمرو فلسطين إلى أسلوبهم الأثير عبر التاريخ، أي التزوير والتحريف بالإستناد إلى أساطير التوراة وخرافاتها. فمنهم من يدعي أن اليهود هم من بنى البترا، منطلقين في هذا الإدعاء الزائف من إشارة توراتية مزعومة إلى أن من أنشأ مدينة البترا هم من سلالة النبي "نابوت" النجل الأكبر للنبي اسماعيل.
ويشير بعض لاهوتييهم إلى أن الرب جَهَّزَ أرض الأدوميين جنوبي الأردن لتكون ملجأ بني اسرائيل منذ البداية. وفي رواية مزعومة ثانية، أن مدينة البترا أُنشئت في عهد عيسو شقيق يعقوب. في السياق، يقبس المؤلف من المؤرخ الأردني أحمد عويدي العبادي ما يؤكد أن تاريخ نحت البترا يعود إلى الحوريين، ثم الأدوميين، ثم الأنباط. وقد بلغت مملكة الأنباط أوجها زمن الملك الحارث الرابع وزوجتيه الملكتين شقيلة وخالدة وابنته العنود، وكانت دمشق آنذاك تتبع للبترا. كما بلغت مملكة الأدوميين، قبل الأنباط، أوج عظمتها وامتدت على مساحة حوالي مليون كيلومتر مربع. وعليه فإن إدعاء الصهاينة بأن بني اسرائيل بنوا البترا هراء وزيف وأباطيل اعتادها العالم منهم عبر العصور وحتى يوم الناس هذا.
ويروج مستعمرو فلسطين أن البترا، هي المكان الذي كلَّمَ الله فيه موسى، وأنها تحتوي أهم وأثمن سر في تاريخهم، أي ما يُسمونه "تابوت العهد" أو "تابوت الرب"، المحتوي على الوصايا العشر. ويروجون اعتقادًا بوجود عصا هارون في البترا، وأن هارون ذاته مدفون في أكنافها. بخصوص هذا الإدعاء الزائف، هناك مقام في قمة جبل قريب من البترا على ارتفاع 1353 مترًا عن سطح البحر، يؤدي فيه اليهود طقوسًا دينية لاعتقادهم أنه مقام هارون. لكن وفق أثبت ما يتفق عليه المؤرخون، فإن هذا المقام مسجد مملوكي صغير يتكون من غرفة مزينة بقماش أخضر تعلوها قبة بيضاء. وعلى مدخله عبارة تفيد أن تجديد عمارة هذا المسجد حصل في عهد السلطان الملك الناصر بن قلاوون. وقد بُني أصلًا في سياقات اهتمام المماليك بالمقامات والقبور، وقد أصطُلِح على إطلاق كلمة مقام على مكان أقام فيه نبي أو صحابي، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ضريحًا له أو قبر.
وإذا احتكمنا إلى علم التاريخ الحديث، فإن قصة موسى وشقيقه هارون يكتنفها الغموض في تفاصيلها كافة. إنها قصص دينية وليست حقائق تاريخية. فعلم التاريخ، متمثلًا بعلمي الآثار والأرخيولوجيا، له قول آخر مختلف تمامًا عما تقول الكتب المقدسة بهذا الخصوص. يقول الباحث الأرخيولوجي الاسرائيلي الشهير، اسرائيل فنكلشتاين، بخصوص قصة "خروج بني اسرائيل من مصر": "بحثنا في كل حبة رمل في سيناء، ولم نعثر على أي أثر لخروج بني اسرائيل من مصر. فإما أننا بحثنا في المكان الخطأ أو أننا نبحث عن خرافة". ويرجح كاتب هذه السطور الثانية، أي أنهم يبحثون عن خرافة، وخرافات مدونة في توراتهم وكتبهم المقدسة وليس عن خرافة واحدة. وعليه، فهل هناك مصدر تاريخي واحد يثبت مرور موسى وشقيقه هارون بأرض الأردن الحالية؟!
نتساءل وليس يفوتنا التذكير بأن علم الأرخيولوجيا وعلم التاريخ لا يعترفان، على سبيل المثال لا الحصر، بوجود شخصية اسمها النبي ابراهيم حتى يوم الناس هذا. يتبع.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟