|
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(7)
عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 12:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عرفت أوروبا، في النصف الأول من القرن العشرين، تيارًا فلسفيًّا ميتافيزيقيًّا تحت عنوان فلسفة الوجود، وتختلف عن الوجودية. بداية، تجدر الإشارة إلى تعدد معاني كلمة "ميتافيزيقا". فقد فرض أدباء ومفكرون وفلاسفة الإتجاهات الحدسية معنى صار مع الزمن الأكثر رواجًا للميتافيزيقا، مفاده أنها الإنطلاق نحو الغيب والماوراء، نحو الإله والقوى الغيبية وكل ما يلازم ذلك من دفقات في الخيال وعدم الاعتماد على أي برهان. وبالمناسبة، فإن مصدر الكلمة موضوع حديثنا المحقق الأرسطي اليوناني اندرونيقوس. فقد أطلقها على عدد محدد من كتابات أرسطو، بعد كتابه "الميتافيزيقا". لكن كلمة "ميتا" وتعني بالإنجليزية بعد أو ما بعد، استطيبت السباحة في بحر الفلسفة المتشعب متلاطم الأمواج، فَتَعَدت معنى ما بعد كتاب "الميتافيزيقا" لأرسطو. فقد استخدم فلاسفة الميتافيزيقا هذا الإسم على نظرية الوجود من حيث هو وجود، بمعنى من معاني الاجتهاد في نظرية الوجود بوسائل عقلانية. لكن عقلانية فلسفة الوجود تختلف عن نظيرتها عند الفلاسفة الوضعيين. فمع أنها لا تعني تحديد البحث بحدود خبرات علوم الطبيعة، إلا أنها تحذف الخيال والعاطفة من طريقة البحث التأملية. يُصنَّف فلاسفة الميتافيزيقا في مجموعات، أولها ذات وجهة واقعية غير مباشرة، لكنهم وضعوا نظريات ميتافيزيقية يغلب عليها الطابع الاستقرائي. معظم فلاسفة هذه المجموعة ألمان، منهم هانزدريش(1867- 1941)، وهنريش ماير (1867- 1933)، وعالم النفس أريك يانش (1883- 1940). المجموعة الثانية تضم مفكرين متدينين يقولون بالألوهية انطلاقًا من المذهب الأفلاطوني المُحدث. نشأ هذا التيار وتطور في انجلترا، ويمثله المفكر وليام اتجه (وُلد عام 1861). واقترب من المذهب الفكري لهذه المجموعة بعض الواقعيين الجدد، وإن كان ميلهم نحو الأفلاطونية الحديثة قليلًا، ومنهم جون ليرد (ولد عام 1887)، والفرد ادوارد تايلور (1869- 1945). وفي فرنسا، اتخذ وِجهة مماثلة موريس بلندل (1861- 1949). المجموعة الثالثة عُرفت بإسم "فلسفة الروح" في فرنسا، وفي طليعتهم رينيه لوسن (ولد 1882م)، ولوي لافل (ولد 1883م). وتضم المجموعة الرابعة فلاسفة من ذوي الاتجاهات الطبيعة، منهم صامول ألكساندر(1858- 1938)، والمفكر الأميركي ذو التأثير في أوروبا، جورج سانتيان (وُلد 1863). ومن فلاسفة الميتافيزيقا الذين يصعب تصنيفهم في أيٍّ من المجموعات المذكورة، الأنطولوجي جونتر ياكوبي(وُلد 1881م)، وعالم الإجتماع أتمار شبان(وُلد 1878م)، والمفكر باول هيبرلن(وُلد 1878م)، ومنطقي الرياضيات الألماني هنريش شولتز(وُلد 1884م)، وهو في الوقت ذاته ميتافيزيقي أفلاطوني. لكن مجموعات الميتافيزيقا وتياراتها تسودها شخصيتان بارزتان، هما الفرد نورث وايتهد(1861- 1947)، ونيقولاي هارتمان (1882- 1950). يُضاف إليهما المدرسة التوماوية، نسبة إلى توما الأكويني (1224- 1274). سنضئ على هذه الفلسفات الثلات تاليًا، وقبل ذلك نرى من المهم، ولكي تكتمل الصورة، عرض أهم ملامح المذاهب الفلسفية لكل من ألكساندر ولافل وهيرلن، بحسبانهم يمثلون اتجاهات فلسفية ميتافيزيقية مختلفة. يقول المفكر الأسترالي صامول ألكساندر بوحدة الوجود والألوهية، والميتافيزيقا بمنظوره علم الوجود من حيث هو وجود ومحمولاته الجوهرية. العنصر الأساس في العالم يتكون برأيه من مجموع المكان والزمان، ويُقصد به الأحداث الخالصة، ويُسميه النقاط المكانية- الزمانية. ويحدد عنصر المكان- الزمان مقولات تخصه بشكل جوهري، وهي بذلك محمولات تُحمل على كل موجود. يقدم ألكساندر نظامًا لهذه المقولات متأثرًا بكل من أفلاطون وكانط. برأيه، ثمة أربع درجات للوجود: الحركة الخالصة، والمادة، والحياة، والوعي. وعنده، نظرية المعرفة من الميتافيزيقا. القيم، كما يصفها "صفات ثالثية" ليست موضوعية مقارنة بالألوان مثلًا ذات الصفات الأولية الموضوعية. ولا توجد القيم إلا بقدر وجود الذات المقيَّمة أو المُقَوَّمة، وتوجد على هيئة علاقات بين الذات والموضوع. وهناك ثلاث فئات من القيم برأيه: قيم الصواب، وقيم الجمال، وقيم الخير. أما القيم الدينية، فليست فئة قائمة بذاتها، بحسبه، لأن الدين ليس إلا شعور بالسير بهدي من الوحي باتجاه الألوهية. المفكر الفرنسي لوي هافل إلى جانب رينيه لوسن، يمثلان "فلسفة الروح" المومأ اليها فوق. ويوصف بأنه فيلسوف وجودي، وهناك من يصنفه مثاليًّا، وآخرون يرونه فيلسوفًا وجوديًّا يقول بالماهية. بخصوص فلسفة الروح، فقد ساد هذا النوع من الفلسفة في فرنسا أكثر من غيرها خلال الأعوام(1935- 1950). ويأخذ فلاسفة هذا الاتجاه بثلاثة مبادئ، أولها، الاعتراف بوجود المطلق، وثانيها، التجربة الإنسانية، وثالثها، قبول الاتجاهات الروحية التي من شأنها تسهيل فهم الإنسان. كما يشتركون بقبول نوع من الإتجاه الحدسي، ونزوع نحو طريقة التفكير الأفلاطونية المُحدثة. على صعيد الأفكار الفلسفية الرئيسة لهافل، فيتصدرها رؤيته بأن الميتافيزيقا لا يمكن أن تدور حول ما هو موضوعي، إنما ينبغي أن تكون علم "الخصائص الذاتية الحميمة الروحية". الوجود عنده ينكشف على هيئة الواحد، وعلى هيئة واحدي المعنى بشتى الصور، لكنه لانهائي في الوقت عينه. وهو على الأخص فعل خالص: إنه الإله. ويقول هافل بتعالي الإله، وبأخلاق تطور الذات ونموها، والانتصار على الطبيعة بالحب. من جهته، يرى باول هيبرلن أن الميتافيزيقا هي إيضاح الحقيقة الأصلية، وعنوانها "أنا أوجد". فالموجود في الواقع هم الأفراد، وهم في جوهرهم موجودات فاعلة، وعن وجودهم بصفتهم هذه ينتج تغيُّر دائم ونشط في العالم. العالم برأي هذا الفيلسوف لانهائي في الزمان والمكان، ولكنه مخلوق، والخالق هو الإله. ماهية الإله سرٌّ مطلق، وأيسر رمز نتمثله عليه هو هيئة الشخص. الإله ليس داخل العالم ولا هو خارجه، إنما خالقه. بمنظور هيبرلن، الإنسان ليس مطابقًا لجسده، لأن هناك النفس، وهي، بحسبه "فردٌ" خالدٌ، تخلق لها جسدًا كما يُكوِّن الإنسان مجتمعًا. النَّفْس عند هيبرلن ليست الروح، فهذه الأخيرة هي إرادة العلو فوق المصالح والاهتمامات. ويعتقد هيبرلن أن المعرفة الحقة والعقيدة الحقة تلتقيان التقاء تطابق. أما العقيدة التي تدعي أنها الحقيقة، وتفرض نفسها بأساليب دوجماطيقية، فإنها عقيدة زائفة ووهم باطل. وننتقل إلى رواد الميتافيزيقا، بدءًا بالفيلسوف الألماني نيقولاي هارتمان. تأثر هذا المفكر بأرسطو وكانط وهيجل، وبالفلسفة الفينومينولوجية. ولعل أهم إضافاته إلى الفلسفة تمييزه بين الواقعي والنموذجي، ومذهبه في الروح الموضوعي، ونظريته في الإشكالات وفي "المتبقي" غير العقلي في الواقع. يقرر هارتمان بخلاف مدارس الفلسفة السابقة عليه أن كل ما يعمل فيه الفكر الفلسفي، أي المسائل الأساسية في ميادين البحث، ذات طبيعة انطولوجية (وجودية). وعليه، يرى أن المثالية والمذهب الذاتي في أكثر صوره تطرفًا، ليس بمستطاعهما الإمتناع عن تفسير مظهر الوجود، بمعنى أن الفكر النظري الذي لا يكون انطولوجيًّا في أعماقه ولا يضع التساؤل الخاص بالوجود من حيث هو كذلك، مثل هذا الفكر لا وجود له. برأي هارتمان، التفكير في "شئ ما" وليس في العدم، جوهر الفكر. وهذا الشئ ما يؤدي إلى تحديد مشكلة الوجود. يُخَطِّئ هارتمان الميتافيزيقا القديمة خطأ مزدوجًا، فقد ادعت القدرة على تقديم حلول لما هو غير قابل للحل من منطلق أن الميتافيزيقي يعني اللاعقلي، وهذا الأخير غير ممكن المعرفة. وكل موجود يمكن إدراكه ومعرفته، بدليل وجود مشكلات لا حصر لها وتناقضات تعترضنا، مثل الحتمية والحرية، والمباطنة والتعالي، والحياة والسلوك الميكانيكي، ليس بمستطاعنا إيجاد حلول لها. ومع ذلك، بمقدورنا إيضاحها وتفسيرها بالمناهج المناسبة، وبالتالي نجعل حدود "البواقي اللامعروفة" تتقهقر وتتراجع. وأخطأت الميتافيزيقا القديمة بحسب هارتمان، بتكوينها نُظُمًا فلسفية مغلقة، وبمحاولتها إخضاع الواقع والحقيقة لها. ويرى أن تلك النُّظُم الفلسفية ولى زمانها، والمهم ذو القيمة ليس النظم الفلسفية، بل ما يثيره الفلاسفة من مشكلات في أبحاثهم. ما تقدم يأخذنا إلى فهم هارتمان لكلٍّ من الميتافيزيقا والأنطولوجيا. الأولى ليست علمًا برأيه، بل أسئلة لا يمكن تقديم أية إجابات عليها. في المقابل، الجانب ممكن المعرفة في الوجود من اختصاص الأنطولوجيا. على صعيد المعرفة، فإن مفهوميها الأساسيان عند هارتمان، هما "الوجود بذاته" و "التعالي". وجود شئ ما بذاته، يعني أنه كائن يوجد، ولا يتعلق وجوده بنا. أما الفعل المتعالي، فإنه ذاك الذي يتعدى الوعي ويربطه إلى الموجود بذاته مستقلًّا عنه، أي عن الوعي. المعرفة بالنسبة لهارتمان فعلٌ متعالٍ، يتميز عن غيره من الأفعال بأنه فعل إدراك خالص بلا زيادة. في فعل المعرفة، العلاقة بين الذات وموضوعها في ذاته علاقة واحدية الجانب واستقبالية. أن تعرف، يعني أن تُدرك الموجود بذاته. وفي المعرفة أيضًا نوع من التلقائية، لكنها نشاط ليس موجهًا باتجاه الموضوع، وإنما تُستنفد في تركيب التصور. علاقة المعرفة، هي علاقة بين الذات الحقيقية والموضوع في ذاته. بشأن الوجود، القضية الرئيسة التي يقدمها هارتمان ترى أنه (الوجود) يتركب على بُعدين، ومن أربع دوائر متمايزة كل منها عن الأخريات. يميز هارتمان دوائر الوجود بين اثنتين أوليتين: دائرة الواقع ودائرة النموذجي، ويسميهما "أنحاء الوجود". ويميز أيضًا بين دائرتين ثانويتين، هما دائرتا المعرفة والمنطق. الوجود الحقيقي لا يجوز خلطه مع الحقيقة، لوجود إمكان واقعي وحقيقة نموذجية، وهو ما يخص مبحث تحليل أنحاء الوجود. وفيما يتعلق بالعلاقات بين مجموعتي الدوائر، هناك رابطة وثيقة بين دائرتي المعرفة ونحو الوجود الواقعي، وما بين دائرتي المنطق والوجود النموذجي. وبخصوص الرابطة الرابعة، يؤكد هارتمان أن الوجود النموذجي يوجد بقدر وجود الوجود الواقعي، بدليل استطاعتنا معرفته، حيث المعرفة إن هي في جوهرها إلا إدراك وجود قائم بذاته. يرى هارتمان أن هناك مضمونات من الوجود النموذجي لم تتحقق في الوجود الواقعي، منها المكان ذو الأبعاد الأكثر من ثلاثة. في المقابل، هناك من الوجود الواقعي ما لا يخضع لأحكام الوجود النموذجي. ومن ذلك، ما هو غير منطقي، بالإضافة إلى المعارض للقيم والواقعي المتناقض. كل وجود نموذجي حي هو عام وكلي، يُختزل إلى أشكال وقوانين وعلاقات. كما أنه أقل أهمية من الوجود الحقيقي. ويرفض هارتمان الموقف الأفلاطوني القائل بأن الوجود النموذجي هو الوجود الأعلى والأسمى، ويدعو إلى عدم الخلط بين الوجود النموذجي والعقلي، لأن اللاعقلي يضم ما يدل على أنه قائم بذاته. وما هو متعدٍّ للعقل يتهرب من سيطرة العقل عليه. وبتحليل دوائر الوجود الأُخرى، توصل هارتمان إلى تعريف البعد الثاني للوجود، وهو طبقات الوجود ويسميها "درجات الوجود". دائرة الوجود الواقعي درجات تشمل، المادة، والحياة، والوعي، والعقل. يقابلها في درجات وجود المعرفة، الإحساس، والحدس، والإدراك، والعِلم. أما الوجود المنطقي، فيتكون من التصور والحكم والاستدلال. وبشأن إضافات هارتمان في مسألة الإمكان، نشير إلى رؤيته بأن الممكن في الوجود الواقعي وحده ما تحققت شروطه كلها. وعليه، فكل ما هو ممكن هو في الوقت عينه ضروري واقعي. وكل ما هو ممكن سلبًا ممتنع وغير واقعي. وفي سياق نظريته بالأنطولوجيا، يميز هارتمان بين الماهية والوجود، إذ يسميهما على التوالي "ما هو الشئ" و "واقعة أنه يوجد". المهم عنده أنهما تظهران بشكل مختلف في دائرتي الوجود الأوليتين. "ماهية الشئ" و "واقعية الشئ" النموذجيتان لا يمكن معرفتهما برأيه إلا على نحو قبلي فقط، ولا يمكن المماثلة بين "ماهية الشئ" و "الوجود النموذجي" بتعبير هارتمان، ولا بين "واقعية الشئ" و "الوجود الواقعي". ولا يرى هارتمان اختلافًا مطلقًا بين علاقات الوجود في العالم بين "ماهية الشئ" و "واقعية الشئ"، كوننا بإزاء لحظات نسبية في هذا الجانب. "واقعية الشئ" التي لورقة الشجر، كما يوضح هارتمان، تنتمي إلى "ماهية الشئ" التي للشجرة. وتنتمي "واقعية الشئ" التي للشجرة إلى "ماهية الشئ" التي للغاية. رائد الميتافيزيقا الثاني، ألفرد نورث وايتهد، ينتمي إلى مجموعة الواقعيين الجدد الإنجليز، الذين أخذوا بالمنهج التحليلي، وبالواقعية، وبتقدير العلم تقديرًا عظيمًا. يرى وايتهد نفسه أفلاطونيًّا، فيقول إن الفلسفة الأوروبية ما هي إلا سلسلة من التعليقات أسفل صفحات افلاطون. لكن أفلاطونيته شديدة الخصوصية، إذ يرى أن "المُثُل" ليست ذات وجود فعلي، وإنما هي إمكانات خالصة. تأثر وايتهد بأرسطو، لجهة أخذه بالمذهب العقلي والتجريبي. وفي نظريته عن الإدراك، يقترب من ليبنيتز، ومن اسبينوزا في فكرة الجوهر. وترجع نظريته في الاستطيقا إلى كانط، رُغم خط سيرها الأرسطي. يدافع مثل برجسون عن فكرة الديناميكية في فهم الوجود وعن مذهب التطور. وعلى غراره، يتخذ موقفًا انتقاديًّا بإزاء العِلم. ومع هذا فإن نظامه الفلسفي ليس انتقائيًّا، بل يتميز بالإتساق والوحدة الداخلية. في كل ميدان فلسفي، يطبق وايتهد فكرتيه الأساسيتين الأصيلتين، الخلق والإدراك. يستنكر استسلام العقل أمام الوقائع، والعالم برأيه محكوم بقوانين منطقية وبتناسق وانسجام استطيقيين. والاعتقاد المبني على هذا الحدس، وحده القادر على جعل العِلم ممكنًا. الوجود بمنظور وايتهد عقلاني يمكن إدراكه بالذهن، ويكفي تصور هذا الإعتقاد لإدراك صحته. من أهم أفكار وايتهد، البحث عن أُسس الأشياء في داخل طبيعة الموجودات الفعلية المحددة، إذ يقول:"حيثما لا يكون موجود قائم، لا يكون هناك أساس. الفيلسوف يفسر المجرد لا المتعين. التجربة وحدها تكشف لنا الحقيقة". يلتقي وايتهد مع هوسرل في عدم قصر التجربة على المعرفة الحسية، إذ يؤكد التزامه بالمذهب التجريبي حين يقرر أن الميتافيزيقا إن هي إلا دراسة وصفية. بخصوص الطبيعة يدعو مذهب وايتهد إلى الأخذ بنظر الاعتبار عناصر عدة، هي التغير، والبقاء، والتخلل، والقيمة، والموجودات العضوية، والموضوعات الخالدة. الأشياء ليست منعزلة عن بعضها في الطبيعة، وإنما يتخلل بعضها البعض. في العالم قيم وموجودات عضوية، وفيه أيضًا أشياء خالدة فضلًا عن أنها تبقى وتستمر مثل الألوان، فإذا اختفى جبل ما فلن يعود إلى الوجود كما كان. ولو حدث ذلك، يوضح وايتهد، فلن يكون هو الجبل نفسه. أما الألوان، فعلى النقيض من ذلك، فاللون الأزرق على سبيل المثال لا الحصر، هو نفسه دائمًا. التصور، المبدأ الرئيس في فلسفة وايتهد، وهو مفهوم الحدث، حيث يرى أن العالم يتكون من أحداث وليس من أشياء، أي مما يحدث. في السياق، المقطوعة الزمانية من الحدث، أو القطرة من التجربة، أو الفعل الفردي من التجربة الحية المباشرة، يسميها وايتهد "الحادثة". كل حدث هو "إدراك" وكيان عضوي. إدراك لإدراكه في ذاته الكون كله، كما لو انه يعرفه معرفة عمياء. ماضي الحدث قائم فيه، ومستقبله معلن عنه، وعالم "الحوادث" ممثل فيه بفعله عليه. "الحدث" وحدة تركيبية مأخوذة بحسبانها كيانًا واحدًا. وكل حدث كيان عضوي، إذ لا تقف أجزاؤه مجرد وقوف جوار بعضها البعض، بل تكون كُلًّا. فكل جزء منه لا يتجزأ، يؤثر على الكل، ويحدد الكل الأجزاء. فالإلكترون عندما ينفذ إلى داخل ذرة، والذرة عندما تدخل خلية حيَّة، يخضع كلاهما لتحولات عميقة. في المعرفة، يقبل وايتهد المذهب الموضوعي، حيث العالم بمنظوره يحتوي على أفعال المعرفة. لكنه لا يحتوي على هذه الأفعال فحسب، فهناك تجربتنا الإدراكية، التي تؤكد وجودنا في عالم يمتد إلى ما هو أبعد منا، ويخبرنا التاريخ بوجود ماضٍ يسبق وجودنا. في سياق نظريته في المعرفة أيضًا، لا بد من إضاءة على مذهب وايتهد في الاستقراء ونظريته في السببية. الاستقراء ليس خطوة ذهنية عقلية، بله نحو من التخمين يكشف عن خصائص معينة لمجموعة محدودة في المكان أو الزمان، ولا يميط اللثام عن قوانين ثابتة. وفيما يتعلق بالسببية، يؤكد وايتهد حيازة الإنسان معطيات حسية يسميها "المباشرة التصويرية". ويرى في السببية افتراضًا أو نتيجة، ويعتقد أنها ليست أقل من بنية فوقية ذهنية، تؤسس المعرفة عن طريق المباشرة التصويرية. لا يميز وايتهد بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا، فيرى الأولى وصفًا للحقيقة منه تصدر المبادئ العامة لكل تفسير. أما القضية التي يقدمها وايتهد في هذا السياق، فهي تقريره بأن الفهم الفعلي يقتضي إشارة وإرجاعًا إلى المثالي. الرائد الثالث للميتافيزيقا، المدرسة التوماوية نسبة إلى توما الأكويني، على ما أنف بيانه. وهي حركة فلسفية روحية، في قلبها تقوم الميتافيزيقا والأنطولوجيا كالأمر الواحد. أما موضوعها، فهو الوجود من حيث هو وجود، مثل سائر المجموعات الفلسفية الميتافيزيقية، كما سبق لنا الإلماح. مذهب "الفعل" و "القوة" يقول به التوماويون بصدد الوجود ويشكل القضية المركزية في نظامهم الفلسفي. فالموجود بالفعل، هو ما يكون موجودًا ابتداءً من وجهة نظرهم. وما هو موجود بالقوة، هو غير الموجود، لكن يمكن أن يكون له وجود حقيقي. بيان ذلك، أن طفلًا يمكن أن يكون عالمًا رياضيًّا، فهو رياضي بالقوة، من حيث الإمكان. العلاقة المتبادلة بين ما بالقوة وما بالفعل علاقة الأساس القابل للتحديد مع فعل التحديد الذي يدخل عليه. التطبيق الأول لنظرية القوة والفعل، يجده فلاسفة التوماوية في مذهب الماهية والوجود. كل وجود عدا الإله، يتكون من ماهية ومن وجود. الوجود فعل الماهية الذي تتحقق به بالفعل. في الوجود المتعيَّن لا يفترق الحدَّان، لكنهما مع ذلك يتمايزان. تطبيق آخر للقوة والفعل، يجدونه في نظرية المقولات. المقولة الأساسية هي مقولة الجوهر الموجود الوحيد بذاته بينما المقولات الأخرى أعراض تحديدات تدخل على الجوهر، بمعنى أن علاقاتها به كعلاقة الفعل بالقوة. في ميدان الوجود، المذهب الرئيس للتوماوية الصورة والمادة. فكل موجود مادي يتكون من مادة، ومن صورة تحدد تلك المادة. علاقة المادة بالصورة، مثل علاقة القوة بالفعل. الصورة تقود الكائن، وتُكوِّن مع المادة فيه وحدة أقرب ما تكون إلى أي عنصرين مختلفين في الطبيعة. يرى التوماويون أن من غير الممكن تفسير الحياة على نحو ميكانيكي صرف، لكننا لا نحتاج إلى القول بوجود جوهرين مختلفين في النبات والحيوان أحدهما مادي والآخر حيوي. المبدأ الحيوي هو صورة الكائن الحي، وهو مضمون أعلى يحدد الموجود الحي في كله. وعند الإنسان، كونه يقف عاليًا فوق مرتبة الصور النباتية والحيوانية، تظهر النفس العاقلة، وهي تحوز كمالات الصور الدنيا في إطار صورة فريدة روحية أعلى. يحوز الإنسان، بحسبهم، أعلى كمال للوجود ممكن على الأرض، لأنه يعرف غايات فاعليته ويصنعها بإرادته. العقل بمنظور التوماويين أعلى درجات الوجود، ويتميز بأنه لامادي برأيهم. مظهر لاماديته عدم قابليته للإنقسام، وعلى وجه الخصوص استقلاله الذاتي. فهو، أي العقل، غير مربوط إلى نظام الزمان والمكان، وقادر على معرفة الماهيات العقلية غير المادية، عبورًا بمعرفة الظواهر المادية على إرادة الغايات المتعدية للماديات. المعرفة عندهم حدسية تأخذ اسم "القوة العاقلة"، أو استدلالية تأخذ إسم العقل. والإرادة استجابة وتفاعل، مثل سائر الاستجابات والتفاعلات المعروفة، لكنها تنتمي إلى النظام العقلي. وكما أن القوة العاقلة يمكنها معرفة الماهيات غير المادية، فالإرادة بمستطاعها أن تريدها. الإرادة بسبب لاماديتها منفتحة على اللانهائي، وبالتالي ليس بمستطاع أي موضوع محدود نهائي أن يحددها، فالإرادة حُرة بإزاء الموضوعات الحرة النهائية. المعرفة عند معظم المفكرين التوماويين مجرد جزء من الميتافيزيقا، كما هو الحال على وجه التحديد عند ألكساندر والألماني هارتمان. وهي بالتالي، لا يمكن أن تكون أساسًا لفلسفة الوجود، بل على العكس تقوم على أساس من نظرية الوجود. ويضعون فرقًا بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية، مفاده أن الأولى لا تُدرك غير المادي المتعيَّن الحسي العرضي، وليس بمكنتها معرفة الوجود من حيث هو وجود. أما الثانية، فإن محورها الوجود. وكل موجود له ماهية عقلية ذات وجود مُتعيَّن في الواقع، يرفعها العقل إلى مقام الكلية والعمومية بالتجربة. المضمون العقلي موجود في الأشياء، والكلية من إنتاج العقل. وهي بذلك وجود عقلي، تأسس على ما هو قائم في الواقع. بالنسبة للتوماويين، لا يوجد معرفة "قبْلِيَّة" بالمعنى المعروف عند كانط. فما أن تكون التصورات، يصبح ممكنًا تكوين قوانين كلية بتحليل التصورات من دون العودة إلى المعرفة الحسية، ثم الوصول بهذه القوانين وبالتحليل بواسطة الفكر إلى قوانين جديدة لإثراء المعرفة. على صعيد الأخلاق، ينطلق التوماويون من أن الوجود من حيث هو موضوع للمعرفة هو أساس المعرفة. ومن حيث الإرادة، فإنه أساس الخير. ويميزون بين ثلاثة أنواع من الخير، هي الخير المطلق، والخير الممتع، والخير النافع. كما يميزون بين عالم القيم الجمالية، حيث التأمل موقف الذات بإزاء الخير، وعالم القيم العملية، والموقف فيها موقف نشاط وفعل. بخصوص القيم العملية، يميزون بين عالمين، عالم التكنولوجيا وعالم الأخلاق. في العالم الأول، موضوع النشاط خارجي، وفي الثاني، الموضوع ذاته فاعل قائم بالعمل. الأخلاق التوماوية غائية، حيث يؤكدون أن الأخلاق في جوهرها نظرية السلوك الإنساني، وبالتالي، ينبغي أن تستقيم على أساس من مذهب في الغاية. وبذلك يختلفون مع المذهب الكانطي الذي يقيم الأخلاق على الواجب، ومع الفلسفة الفينومينولوجية التي ترى مفهوم القيمة مركز الأخلاق. الوعي يحدد السلوك الإنساني في النظام الأخلاقي التوماوي، لكن هذا الوعي إن هو إلا تعبير عن القانون الطبيعي، بمعنى القوانين الأخلاقية المباطنة للطبيعة البشرية ذاتها. ومن أمثلة ذلك، إدانة القانون الأخلاقي للزنا، لأن الطبيعة الإنسانية نفسيًّا وفيزيولوجيًّا تتطلب من الإنسان واحدية الزواج. أخيرًا، الميتافيزيقا فلسفة الوجود المتعيَّن، وعلى وجه الخصوص فلسفة الشخص الإنساني كما يفهمه مفكروها.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبسٌ من كتاب
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(6)
-
الدولة المدنية هي الحل
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(5).
-
من تجليات العقل المُغيب !
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(4)
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(3)
-
انتخابات الصحفيين الأردنيين.
-
اطلالة عقل على صفحة في تاريخنا !
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(2)
-
العَرط !
-
وما تزال الإشكالية قائمة !
-
ملحمة التكوين البابلية -الإينوما إيليش-.
-
كلامٌ نتغَيَّا أن يكون حقًّا !
-
أوضاعنا ليست مطمئنة !
-
المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(1)
-
يا حسرة علينا...!!!
-
سؤال إلى كل عربي حُر ومحترم
-
الإعلامي الفهلوي !
-
القربان !!!
المزيد.....
-
مسؤولة أوكرانية تؤكد ضرورة انسحاب بلادها من اتفاقية أوتاوا ح
...
-
العراق وتركيا.. صفحة جديدة من العلاقات بعد زيارة السوداني لأ
...
-
سكرتير عام الناتو يؤكد أنهم في الحلف لم يعدوا أوكرانيا بالع
...
-
الكرملين يرد على خطط الاتحاد الأوروبي لتشكيل -محكمة- ضد روسي
...
-
ديلي ميل: خطأ طيار تسبب بحريق في طائرة كانت تقل أكثر من 300
...
-
مسؤولون إسرائيليون: نتنياهو خائف من الحوثيين
-
روسيا تحيي الذكرى الـ 80 للنصر
-
مشاهد توثق هلع الإسرائيليين وتوقف مطار بن غوريون عن العمل بس
...
-
وزارة الدفاع الفرنسية تقيل جنرالين لانتقادهما السلطات
-
دوي انفجارات بإسرائيل وهروب ملايين للملاجئ عقب اعتراض صاروخ
...
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|